المقالة الخامسة :هل الشعور كافٍ لمعرفة كل حياتنا النفسية ؟ جدلية .
I – طرح المشكلة :ان
التعقيد الذي تتميز به الحياة النفسية ، جعلها تحظى باهتمام علماء النفس
القدامى والمعاصرون ، فحاولوا دراستها وتفسير الكثير من مظاهرها . فاعتقد
البعض منهم ان الشعور هو الاداة الوحيدة التي تمكننا من معرفة الحياة
النفسية ، فهل يمكن التسليم بهذا الرأي ؟ او بمعنى آخر : هل معرفتنا
لحياتنا النفسية متوقفة على الشعور بها ؟
II – محاولة حل المشكلة :
1-أ- عرض الاطروحة :يذهب
انصارعلم النفس التقليدي من فلاسفة وعلماء ، الى الاعتقاد بأن الشعور هو
أساس كل معرفة نفسية ، فيكفي ان يحلل المرء شعوره ليتعرف بشكلٍ واضح على كل
ما يحدث في ذاته من احوال نفسية او ما يقوم به من افعال ، فالشعور والنفس
مترادفان ، ومن ثـمّ فكل نشاط نفسي شعوري ، وما لا نشعر به فهو ليس من
انفسنا ، ولعل من ابرز المدافعين عن هذا الموقف الفيلسوفان الفرنسيان "
ديكارت " الذي يرى أنه : « لا توجد حياة أخرى خارج النفس الا الحياة
الفيزيولوجية » ، وكذلك " مين دو بيران " الذي يؤكد على أنه : « لا توجد
واقعة يمكن القول عنها انها معلومة دون الشعور بها » . وهـذا كله يعني ان
الشعور هو اساس الحياة النفسية ، وهو الاداة الوحيدة لمعرفتها ، ولا وجود
لما يسمى بـ " اللاشعور " .
1-ب- الحجة :ويعتمد
انصار هذا الموقف على حجة مستمدة من " كوجيتو ديكارت " القائل : « أنا
أفكر ، إذن أنا موجود » ، وهذا يعني ان الفكر دليل الوجود ، وان النفس
البشرية لا تنقطع عن التفكير الا اذا انعم وجودها ، وان كل ما يحدث في
الذات قابل للمعرفة ، والشعور قابل للمعرفة فهو موجود ، اما اللاشعور فهو
غير قابل للمعرفة ومن ثـمّ فهو غير موجود .
اذن لا وجود لحياة نفسية لا نشعر بها ، فلا
نستطيع ان نقول عن الانسان السّوي انه يشعر ببعض الاحوال ولا يشعر بأخرى
مادامت الديمومة والاستمرار من خصائص الشعور .
ثـم إن القول بوجود نشاط نفسي لا نشعر به معناه
وجود اللاشعور ، وهذا يتناقض مع حقيقة النفس القائمة على الشعور بها ، فلا
يمكن الجمع بين النقيضين الشعور واللاشعـور في نفسٍ واحدة ، بحيث لا يمكن
تصور عقل لا يعقل ونفس لا تشعر .
وأخيرا ، لو كان اللاشعور موجودا لكان قابلا
للملاحظة ، لكننا لا نستطيع ملاحظته داخليا عن طريق الشعور ، لأننا لا نشعر
به ، ولا ملاحظته خارجيا لأنه نفسي ، وماهو نفسي باطني وذاتي . وهذا يعني
ان اللاشعور غير موجود ، وماهو موجود نقيضه وهو الشعور .
1-جـ- النقد :ولكن
الملاحظة ليست دليلا على وجود الاشياء ، حيث يمكن ان نستدل على وجود الشئ
من خلال آثاره ، فلا أحد يستطيع ملاحظة الجاذبية او التيار الكهربائي ،
ورغم ذلك فاثارهما تجعلنا لا ننكر وجودهما .
ثم ان التسليم بأن الشعورهو اساس الحياة النفسية
وهو الاداة الوحيدة لمعرفتها ، معناه جعل جزء من السلوك الانساني مبهما
ومجهول الاسباب ، وفي ذلك تعطيل لمبدأ السببية ، الذي هو اساس العلوم .
2-أ- عرض نقيض الاطروحة : بخلاف
ما سبق ، يذهب الكثير من انصار علم النفس المعاصر ، ان الشعور وحده ليس
كافٍ لمعرفة كل خبايا النفس ومكنوناتها ، كون الحياة النفسية ليست شعورية
فقط ، لذلك فالانسان لا يستطيع – في جميع الاحوال – ان يعي ويدرك اسباب
سلوكه . ولقد دافع عن ذلك طبيب الاعصاب النمساوي ومؤسس مدرسة التحليل
النفسي " سيغموند فرويد " الذي يرى أن : « اللاشعور فرضية لازمة ومشروعة ..
مع وجود الادلة التي تثبت وجود اللاشعور » . فالشعور ليس هـو النفس كلها ،
بل هناك جزء هام لا نتفطن – عادة – الى وجوده رغم تأثيره المباشر على
سلوكاتنا وأفكارنا وانفعالاتنا ..
2-ب- الحجة :وما
يؤكد ذلك ، أن معطيات الشعور ناقصة ولا يمكنه أن يعطي لنا معرفة كافية لكل
ما يجري في حياتنا النفسية ، بحيث لا نستطيع من خلاله ان نعرف الكثير من
أسباب المظاهرالسلوكية كالاحلام والنسيان وهفوات اللسان وزلات الاقلام ..
فتلك المظاهر اللاشعورية لا يمكن معرفتها بمنهج الاستبطان ( التأمل الباطني
) القائم على الشعور ، بل نستدل على وجودها من خلال اثارها على السلوك .
كما أثبت الطب النفسي أن الكثير من الامراض والعقد والاضطرابات النفسية
يمكن علاجها بالرجوع الى الخبرات والاحداث ( كالصدمات والرغبات والغرائز ..
) المكبوتة في اللاشعور.
2جـ - النقد :لا
شك ان مدرسة التحليل النفسي قد أبانت فعالية اللاشعور في الحياة النفسية ،
لكن اللاشعور يبقى مجرد فرضية قد تصلح لتفسير بعض السلوكات ، غير أن
المدرسة النفسية جعلتها حقيقة مؤكدة ، مما جعلها تحول مركز الثقل في الحياة
النفسية من الشعور الى اللاشعور ، الامر الذي يجعل الانسان اشبه بالحيوان
مسيّر بجملة من الغرائز والميول المكبوتة في اللاشعور.
3- التركيب :وهكذا
يتجلى بوضوح ، أن الحياة النفسية كيان معقد يتداخل فيه ماهو شعوري بما هو
لاشعوري ، أي انها بنية مركبة من الشعور واللاشعور ، فالشعور يمكننا من فهم
الجانب الواعي من الحياة النفسية ، واللاشعور يمكننا من فهم الجانب
اللاواعي منها .
III– حل المشكلة :وهكذا
يتضح ، أن الانسان يعيش حياة نفسية ذات جانبين : جانب شعوري يُمكِننا
ادراكه والاطلاع عليه من خلال الشعور ، وجانب لاشعوري لا يمكن الكشف عنه
الا من خلال التحليل النفسي ، مما يجعلنا نقول أن الشعور وحده غير كافٍ
لمعرفة كل ما يجري في حيتنا النفسية .
المقالة السادسة:هل الذاكرة ظاهرة اجتماعية أم بيولوجيةالطريقة : جدلية
I - طرح المشكل :اختلفت
الطروحات والتفسيرات فيما يتعلق بطبيعة الذاكرة وحفظ الذكريات . فاعتقد
البعض ان الذاكرة ذات طبيعة اجتماعية ، وان الذكريات مجرد خبرات مشتركة بين
افراد الجماعة الواحدة . واعتقد آخرون ان الذاكرة مجرد وظيفة مادية من
وظائف الدماغ ؛ الامر الذي يدعونا الى طرح المشكلة التالية : هل الذاكرة
ذات طابع اجتماعي أم مادي بيولوجي ؟
II- محاولةحل المشكل
1-أ- عرض الاطروحة :أنصار النظرية الاجتماعية : اساس الذاكرة هو المجتمع ؛ أي انها ظاهرة اجتماعية بالدرجة الاولى .
1-ب- الحجة :لأن
– أصل كل ذكرى الادراك الحسي ، والانسان حتى ولو كان منعزلا فانه عندما
يدرك أمرا ويثبته في ذهنه فإنه يعطيه إسما ليميزه عن المدركات السابقة ،
وهو في ذلك يعتمد على اللغة ، واللغة ذات طابع اجتماعي ، لذلك فالذكريات
تحفظ بواسطة اشارات ورموز اللغة ، التي تُكتسب من المجتمع
- ان الفرد لا يعود الى الذاكرة ليسترجع ما فيها
من صور ، الا اذا دفعه الغير الى ذلك أو وجه اليه سؤالا ، فأنت مثلا لا
تتذكر مرحلة الابتدائي او المتوسط الا اذا رأيت زميلا لك شاركك تلك المرحلة
، او اذا وجه اليك سؤالا حولها ، لذلك فإن معظم خبراتنا من طبيعة اجتماعية
، وهي تتعلق بالغير ، ونسبة ماهو فردي فيها ضئيل ، يقول هالفاكس : " إنني
في أغلب الاحيان حينما أتذكر فإن الغير هو الذي يدفعني الى التذكر ... لأن
ذاكرتي تساعد ذاكرته ، كما أن ذاكرته تساعد ذاكرتي " .
ويقول : " ليس هناك ما يدعو للبحث عن موضوع
الذكريات وأين تحفظ إذ أنني أتذكرها من الخارج ... فالزمرة الاجتماعية التي
انتسب إليها هي التي تقدم إلي جميع الوسائل لإعادة بنائها "
- والانسان لكي يتعرف على ذكرياته ويحدد اطارها
الزماني والمكاني ، فإنه في الغالب يلجأ الى احداث اجتماعية ، فيقول مثلا (
حدث ذلك اثناء .... او قبل .... و في المكان ..... وعليه فالذكريات بدون
أطر اجتماعية تبقى صور غير محددة وكأنها تخيلات ، يقول : ب . جاني : " لو
كان الانسان وحيدا لما كانت له ذاكرة ولما كان بحاجة إليها " .
1-ج- النقد :لو
كانت الذاكرة ظاهرة اجتماعية بالاساس ، فيلزم عن ذلك أن تكون ذكريات جميع
الافراد المتواجدين داخل المجتمع الواحد متماثلة ، وهذا غير واقع . ثم ان
الفرد حينما يتذكر ، لا يتذكر دائما ماضيه المشترك مع الغير ، فقد يتذكر
حوادث شخصية لا علاقة للغير بها ولم يطلب منه احد تذكرها ( كما هو الحال في
حالات العزلة عندما نتذكر بدافع مؤثر شخصي ) ، مما يعني وجود ذكريات فردية
خالصة .
2-أ- عرض نقيض الاطروحة : النظرية المادية : الذاكرة وظيفة مادية بالدرجة الاولى ، وترتبط بالنشاط العصبي ( الدماغ ) .
2-ب- الحجة :لأن
: - الذاكرة ترتبط بالدماغ ، واصابته في منطقة ما تؤدي الى تلف الذكريات (
من ذلك الفقدان الكلي او الجزئي للذكريات في بعض الحوادث ) .
- بعض امراض الذاكرة لها علاقة بالاضطرابات التي
تصيب الجملة العصبية عموما والدماغ على وجه الخصوص ، فالحبسة او الافازيا (
التي هي من مظاهر فقدان الذاكرة ) سببها اصابة منطقة بروكا في قاعدة
التلفيف الثالث من الجهة الشمالية للدماغ ، أو بسبب نزيف دموي في الفص
الجداري الايمن من الجهة اليسرى للدماغ ، مثال ذلك الفتاة التي أصيبت
برصاصة ادت الى نزيف في الفص الجداري الايمن من الجهة اليسرى للدماغ ،
فكانت لا تتعرف على الاشياء الموضوعة في يدها اليسرى بعد تعصيب عينيها ،
فهي تحوم حولها وتصفها دون ان تذكرها بالاسم ، وتتعرف عليها مباشرة بعد
وضعها في يدها اليمنى
يقول تين Taine: " إن الدماغ وعاء يستقبل ويختزن مختلف الذكريات " ، ويقول ريبو : " الذاكرة وظيفة بيولوجية بالماهية "
2-ج- النقد :ان
ما يفند مزاعم انصار النظرية المادية هو ان فقدان الذاكرة لا يعود دائما
الى اسباب عضوية (اصابات في الدماغ) فقد يكون لأسباب نفسية ( صدمات نفسية )
... ثم ان الذاكرة قائمة على عنصر الانتقاء سواء في مرحلة التحصيل
والتثبيت او في مرحلة الاسترجاع ، وهذا الانتقاء لا يمكن تفسيره الا بالميل
والاهتمام والرغبة والوعي والشعور بالموقف الذي يتطلب التذكر .. وهذه كلها
امور نفسية لا مادية .
3- التركيب ( تجاوز الموقفين ) :ومنه
يتبين ان الذاكرة رغم انها تشترط اطر اجتماعية نسترجع فيها صور الذكريات
ونحدد من خلالها اطارها الزماني والمكاني ، بالاضافة الى سلامة الجملة
العصبية والدماغ على وجه التحديد ، الا انها تبقى احوال نفسية خالصة ، إنها
ديمومة نفسية أي روح ، وتتحكم فيها مجموعة من العوامل النفسية كالرغبات
والميول والدوافع والشعور ..
الامثلة : إن قدرة الشاعر على حفظ الشعر اكبر من
قدرة الرياضي . ومقدرة الرياضي في حفظ الأرقام والمسائل الرياضية اكبر من
مقدرة الفيلسوف ... وهكذا , والفرد في حالة القلق والتعب يكون اقل قدرة على
الحفظ , وهذا بالإضافة إلى السمات الشخصية التي تؤثر إيجابا أو سلبا على
القدرة على التعلم والتذكر كعامل السن ومستوى الذكاء والخبرات السابقة ..
III- حل المشكل:وهكذا
يتضح ان الذاكرة ذات طبيعة معقدة ، يتداخل ويتشابك فيها ماهو مادي مع ماهو
اجتماعي مع ماهو نفسي ، بحث لا يمكن ان نهمل او نغلّب فيها عنصرا من هذه
العناصر الثلاث .
ملاحظة :يمكن في التركيب الجمع بين الموقفين ، و ليس من الضروري تجاوزهما
المقالة السابعة:هل يمكن القول ان العقل هو اساس القيمة الاخلاقية ؟ جدلية
I - طرح المشكلة :تعد
مشكلة أساس القيمة الخلقية من أقدم المشكلات في الفلسفة الاخلاقية وأكثرها
إثارة للجدل ؛ إذ تباينت حولها الاراء واختلفت المواقف ، ومن تلك المواقف
الموقف العقلي الذي فسر أساس القيمة الاخلاقية بإرجاعها الى العقل ؛ فهل
فعلا يمكن تأسيس القيم الاخلاقية على العقل وحده ؟
II – محاولة حل المشكلة :
1- أ – عرض الاطروحة :يرى
البعض ، أن مايميز الانسان – عن الكائنات الاخرى - هو العقل ، لذلك فهو
المقياس الذي نحكم به على الاشياء وعلى سلوكنا وعلى القيم جميعا ، أي أن
أساس الحكم على الافعال و السلوكات وإضفاء طابع اخلاقي عليها هو العقل ،
وعليه أٌعتبر المصدر لكل قيمة خلقية . وقد دافع عن هذا الرأي أفلاطون قديما
والمعتزلة في العصر الاسلامي وكانط في العصر الحديث .
1- ب – الحجة :ويؤكد
ذلك أن ( أفلاطون 428 ق م – 347 ق م ) قسم أفعال الناس تبعا لتقسيم
المجتمع ، فإذا كان المجتمع ينقسم الى ثلاث طبقات هي طبقة الحكماء وطبقة
الجنود وطبقة العبيد ، فإن الافعال – تبعا لذلك – تنقسم الى ثلاثة قوى
تحكمها ثلاث فضائل : القوة العاقلة ( تقابل طبقة الحكماء ) وفضيلتها الحكمة
والقوة الغضبية ( طبقة الجنود ) وفضيلتها الشجاعة والقوة الشهوانية (
العبيد ) وفضيلتها العفة ، والحكمة هي رأس الفضائل لأنها تحد من طغيان
القوتين الغضبية والشهوانية ، ولا يكون الانسان حكيما الا اذا خضعت القوة
الشهوانية والقوة الغضبية للقوة العاقلة .
- و عند المعتزلة ، فالعقل يدرك ما في الافعال من
حسن او قبح ، أي ان بإمكان العقل ادراك قيم الافعال والتمييز فيها بين ما
هو حسن مستحسن وماهو قبيح مستهجن ، وذلك حتى قبل مجيئ الشرع ، لأن الشرع
مجرد مخبر لما يدركه العقل ، بدليل ان العقلاء في الجاهلية كانوا يستحسنون
افعالا كاصدق والعدل والامانة والوفاء ، ويستقبحون أخرى كالكذب والظلم
والخيانة والغدر .. وان الانسان مكلف في كل زمان ومكان ولولا القدرة على
التمييز لسقطت مسؤولية العباد امام التكليف .
- والعقل عند ( كانط 1724 – 1804 ) الوسيلة التي
يميز به الإنسان بين الخير والشر، وهوالمشرّع ُ لمختلف القوانين والقواعد
الأخلاقية التي تتصف بالكلية والشمولية ، معتبراً الإرادة الخيرة القائمة
على اساس الواجب الركيزة الأساسية للفعل لأن الانسان بعقله ينجز نوعين من
الاوامر : أوامر شرطية مقيدة ( مثل : كن صادقا ليحبك الناس ) ، وأوامر
قطعية مطلقة ( مثال : كن صادقا ) ، فالاوامر الاولى ليس لها أي قيمة
اخلاقية حقيقية ، فهي تحقق اخلاق منفعة ، وتتخذ الاخلاق لا كغاية في ذاتها ،
وانما كوسيلة لتحقيق غاية . اما الاوامر الثاني فهي اساس الاخلاق ، لانها
لا تهدف الى تحقيق أي غاية او منفعة ، بل تسعى الى انجاز الواجب الاخلاقي
على انه واجب فقط بصرف النظر عن النتائج التي تحصل منه لذلك يقول : « إن
الفعل الذي يتسم بالخيرية الخلقية فعل نقي خالص , وكأنما هو قد هبط من
السماء »
1- جـ - النقد :لكن
التصور الذي قدمه العقليون لأساس القيمة الاخلاقية تصور بعيد عن الواقع
الانساني ، فالعقل اولا قاصر واحكامه متناقضة ، فما يحكم عليه هذا بأنه خير
يحكم عليه ذاك بأنه شر فاذا كان العقل قسمة مشتركة بين الناس فلماذا تختلف
القيم الاخلاقية بينهم إذن ؟ . كما يهمل هذا التصور الطبيعة البشرية ،
فالانسان ليس ملاكا يتصرف وفق احكام العقل ، بل هو ايضا كائن له مطالب
حيوية يسعى الى اشباعها ، والتي لها تأثير في تصور الفعل . واخيرا أن
الأخلاق عند كانط هي أخلاق متعالية مثالية لا يمكن تجسيدها على ارض الواقع .
2- أ – عرض نقيض الاطروحة :
وخلافا لما سبق ، يرى البعض الآخر أن العقل ليس هو الاساس الوحيد للقيم
الاخلاقية ، باعتبار ان القيمة الخلقية للأفعال الإنسانية متوقفة على
نتائجها وأثارها الايجابية أي ما تحصله من لذة ومنفعة وما تتجنبه من الم
ومضرة ، وقد تتوقف القيم الاخلاقية على ما هو سائد في المجتمع من عادات
وتقاليد واعراف وقوانين ، فتكون بذلك صدى لهذه الاطر الاجتماعية ، وقد
يتوقف – في الاخير - معيار الحكم على قيم الافعال من خير ( حسن ) او شر (
قبح ) على الارادة الالهية او الشرع .
2- ب – الحجة : وما
يثبت ذلك ، ان القيم الاخلاقية ماهي الا مسألة حسابية لنتائج الفعل ، وهذه
النتائج لا تخرج عن تحصيل اللذات والمنافع ؛ فما يحفز الانسان الى الفعل
هو دائما رغبته في تحصيل لذة او منفعة لأن ذلك يتوافق مع الطبيعة الانسانية
فالانسان بطبعة يميل الى اللذة والمنفعة ويتجنب الالم والضرر ، وهو يٌقدم
على الفعل كلما اقترن بلذة او منفعة ، ويحجم عنه اذا اقترن بألم او ضرر ،
فاللذة والمنفعة هما غاية الوجود ومقياس أي عمل أخلاقي ، وهما الخير الاسمى
والالم والضرر هماالشر الاقصى .
- ومن ناحية أخرى ، فإن القيم الأخلاقية بمختلف
أنواعها وأشكالها سببها المجتمع , وما سلوك الأفراد في حياتهم اليومية إلا
انعكاس للضمير الجمعي الذي يُهيمن على كل فرد في المجتمع . أي ان معيار
تقويم الافعال اساسه المجتمع ، والناس تصدر احكامها بالاعتماد عليه ، فمثلا
الطفل حينما يولد لا تكون لديه فكرة عن الخير او الشر ، فينشأ في مجتمع –
يتعهده بالتربية والتثقيف – يجد فيه الناس تستحسن افعالا وتستقبح أخرى ،
فيأخذ هذا المقياس عنهم ، فيستحسن ما يستحسنه الناس ، ويستقبح ما يستقبحونه
، فإن هواستقبح مثلا الجريمة فلأن المجتمع كله يستقبحها ، ومن ثمّ يدرك ان
كل ما يوافق قواعد السلوك الاجتماعي فهو خير وكل ما يخالفها فهو شر .
والنتيجة ان القيم الاخلاقية من صنع المجتمع لا الفرد ، وما على هذا الفرد
الا ان يذعن لها طوعا اوكرها ، الامر الذي جعل دوركايم ( 1858 – 1917 )
يقول : « اذا تكلم ضميرنا فإن المجتمع هو الذي يتكلم فينا » ، وكذلك : « ان
المجتمع هو النموذج والمصدر لكل سلطة اخلاقية ، وأي فعل لا يقره المجتمع
بأنه اخلاقي ، لا يكسب فاعله أي قدر من الهيبة او النفوذ » .
- ومن ناحية ثالثة ، ان معيار الحكم على قيم
الافعال من خير او شر يرتد الى الارادة الالهية او الشرع . فـنحن – حسب
(إبن حزم الاندلسي 374هـ - 456 هـ ) – نستند الى الدين في تقويم الافعال
الخلقية وفق قيم العمل بالخير والفضيلة والانتهاء عن الشر والرذيلة ، ولا
وجود لشيئ حسنا لذاته او قبيحا لذاته ، ولكن الشرع قرر ذلك ، فما سمّاه
الله حسنا فهو حسن وما سمّاه قبيحا فهو قبيح .
كما ان الافعال حسنة او قبيحة – حسب ما يذهب اليه
الاشاعرة – بالامر او النهي الالهي ، فما امر به الله فهو خير وما نهى عنه
فهو شر ، أي ان الاوامر الالهية هي التي تضفي صفة الخير على الافعال او
تنفيها عنها ، ولذلك – مثلا – الصدق ليس خيرا لذاته ولا الكذب شرا لذاته ،
ولن الشرع قرر ذلك . والعقل عاجز عن ادراك قيم الافعال والتمييز فيها بين
الحسن والقبح ، وليس له مجال الا اتباع ما اثبته الشرع .
2- جـ - النقد :
ولكن النفعيون لا يميزون بين الثابت والمتغير ولا بين النسبي والمطلق لأن
القيم الاخلاقية قيم ثابتة ومطلقة ، والاخذ باللذة والمنفعة كمقياس لها
يجعلها متغيرة ونسبية ، فيصبح الفعل الواحد خيرا وشرا في آن واحد ، خيرا
عند هذا اذا حقق له لذة او منفعة ، وشرا عند ذاك اذا لم يحقق أيًّا منهما .
ثم ان المنافع متعارضة ، فما ينفعني قد لا ينفع غيري بالضرورة ، وأخيرا
فان ربط الاخلاق باللذة والمنفعة يحط من قيمة الاخلاق و الانسان معاً ؛
فتصبح الاخلاق مجرد وسيلة لتحقيق غايات كما يصبح الانسان في مستوى واحد مع
الحيوان .
ثم ان المدرسة الاجتماعية تبالغ كثيرا في تقدير
المجتمع والاعلاء من شأنه ، وفي المقابل تقلل او تعدم اهمية الفرد ودوره في
صنع الاخلاق ، والتاريخ يثبت ان افرادا ( انبياء ، مصلحين ) كانوا مصدرا
لقيم اخلاقية ساعدت المجتمعات على النهوض والتقدم . ومن جهة ثانية ،
فالواقع يثبت ان القيم الاخلاقية تتباين حتى داخل المجتمع الواحد ، وكذا
اختلافها من عصر الى آخر ، ولو كان المجتع مصدرا للاخلاق لكانت ثابتة فيه
ولزال الاختلاف بين افراد المجتمع الواحد .
وبالنسبة للنزعة الدينية فإنه لا يجوز الخلط بين
مجالين من الاحكام : - احكام شرعية حيث الحلال والحرام ، وهي متغيرة وفق
مقاصد الشريعة
- واحكام اخلاقية حيث الخير والشر او الحسن
والقبح ، وهي ثابتة في كل زمان ومكان . مثلا : الكل يتفق على ان الكذب شر ،
اما الاستثناء كجواز الكذب في الحرب او من اجل انقاذ برئ ( بقصد حفظ النفس
الذي هو من مقاصد الشريعة ) فلا يجعل من الكذب خيراً .
3 – التركيب :إن
الانسان في كينونته متعدد الابعاد ؛ فهو اضافة الى كونه كائن عاقل فإنه
كائن بيولوجي أيضا لا يتواجد الا ضمن الجماعة التي تؤمن بمعتقد خاص ، وهذه
الابعاد كلها لها تأثير في تصور الانسان للفعل الاخلاقي وكيفية الحكم عليه .
فقد يتصور الانسان أخلاقية الفعل بمقتضئ ما يحكم به علقه ، أو بمقتضى ما
يهدف الى تحصيله من وراء الفعل ، أو بمقتضى العرف الاجتماعي أو وفق
معتقداته التي يؤمن بها .
III– حل المشكلة :وهكذا
يتضح أن أسس القيم الاخلاقية مختلفة ومتعددة ، وهذا التعدد والاختلاف يعود
في جوهره الى تباين وجهات النظر بين الفلاسفة الذين نظر كل واحدا منهم الى
المشكلة من زاوية خاصة ، أي زاوية المذهب او الاتجاه الذي ينتمي اليه .
والى تعدد ابعاد الانسان ، لذلك جاز القول ان العقل ليس الاساس الوحيد
للقيم الاخلاقية .
ملاحظة :يمكن الاكتفاء في نقيض الاطروحة برأي واحد
المقالة الثامنة :هل يمكن اعتبار القوة وسيلة مشروعة لنيل الحقوق ؟ الطريقة : جدلية
طرح المشكلة :
إن العدالة مبدأ أخلاقي سامي ، سعت المجتمعات قديمها وحديثها الى جعلها
واقعا ملموسا بين افرداها ، ولا يمكن ان يحصل ذلك الا اذا أُعطي كل ذي حق
حقه ، والحق هو الشيئ الثابت الذي لا يجوز إنكاره طبيعيا كان او اجتماعيا
او اخلاقيا . الا ان المفكرين والفلاسفة اختلفوا في الوسائل التي تمكننا من
نيل هذه الحقوق ، فاعتقد البعض منهم بأن القوة وسيلة مشروعة لتحقيقها ،
فهل يمكن اعتبار القوة – حقيقة – آداة مشروعة لنيل الحقوق ؟ بمعنى : هل
يمكن تأسيس الحقوق على أساس القوة ؟
محاولة حل المشكلة :
1-أ- الاطروحة :
لقد ذهب فريق من الفلاسفة الى اعتبار القوة آداة مشروعة لنيل الحقوق ،
واساس سليما يمكن ان تقوم عليه هذه الحقوق ، ونجد من بين هؤلاء المفكر
الايطالي " ميكيافيلي " الذي يرى أن : « الغاية تبرر الوسيلة » ، حتى وان
كانت الوسيلة لا اخلاقية ، فإذا كان الانتصار ومن ثـمّ نيل الحقوق هو ضالة
الحاكم وهدفه ، فلابد من استعمال القوة اذا كان الامر يستدعي ذلك . اما
الفيلسوف الانجليزي " توماس هوبز " فيرى ان القوي هو الذي يحدد الخير والشر
. بينما الفيلسوف الهولندي " سبينوزا " يرى : « أن كل فرد يملك من الحق
بمقدار ما يملك من القوة » كما أشاد الفيلسوف الالماني " نيتشه " بإرادة
القوة حلى حساب الضعفاء . ونجد – في الاخير –. الفيلسوف الالماني المادي "
كارل ماركس " الذي يذهب الى ان الحقوق ماهي الا مظهرا لقوة الطبقة المسيطرة
اجتماعيا والمهيمنة اقتصاديا . وعليه فالقوة – حسب هؤلاء – آداة مشروعة بل
وضرورية لنيل الحقوق .
1-ب- الحجة :
وما يؤكد مشروعية القوة كوسيلة لاكتساب الحقوق هو تاريخ المجتمعات
الانسانية نفسه ؛ إذ يثبت بأن كثيرا من الحقوق وجدت بفضل استخدام القوة ،
فقيام النزاعات والثورات انتهت في معظمها بتأسيس الكثير من الحقوق ، التي
صارت فيما بعد موضع اعتراف من طرف الجميع ، مثال ذلك أن الكثير من الشعوب
المستعمرة استردت حريتها – كحق طبيعي – بفعل الثورة المسلحة أي القوة
العسكرية .
كما ان المجتمع الدولي حاليا يثبت بأن الدول التي تتمتع بحق النقض ( الفيتو) في مجلس الامن هي الدول القوية اقتصاديا واجتماعيا .
1-جـ- النقد :
لا ننكر ان بعض الحقوق تـمّ نيلها عن طريق القوة ، لكن ذلك لا يدعونا الى
التسليم أنها – أي القوة – وسيلة مشروعة للحصول على جميع الحقوق ، لأن ذلك
يؤدي الى انتشار قانون الغاب فيأكل بموجبه القوي الضعيف ، وبالتالي تفسد
الحياة الاجتماعية وتهدر الكثير من الحقوق .
اضافة الى ذلك فالقوة امر نسبي أي متغير ، فالقوي
اليوم ضعيف غداً والعكس صحيح ، ولأجل ذلك فإن الحق الذي يتأسس على القوة
يزول بزوالها .
2-أ- نقيض الاطروحة :
خلافا للموقف السابق ، يذهب فريق من الفلاسفة الى الاعتقاد أن القوة لا
يمكن ان تعتبر وسيلة سليمة ومشروعة لنيل الحقوق ، ولا ينبغي بأي حال من
الاحول ان تكون اساسا للحقوق . و الذين يدافعون عن هذه الوجهة من النظر
الفيلسوف الفرنسي " جان جاك روسو " الذي يقول : « إن القوة سلطة مادية ،
ولا أرى بتاتا كيف تنجم الاخلاقية من نتائجها » ، فالقوة بهذا المعنى لا
يمكن ان تصنع الحق ، ولعل هذه ما ذهب اليه الزعيم الهندي " غاندي " عندما
بـيّـن أن استخدام القوة في سبيل نيل الحقوق ماهو سوى مجرد فلسفة مادية لا
اخلاقية ، حيث يقول : « اننا سوف نكسب معركتنا لا بمقدار ما نقتل من خصوم ،
ولكن بمدار ما نقتل في نفوسنا الرغبة في القتل » . وعلى هذا الاساس فالقوة
غير مشروعة في نيل الحقوق .
2-ب – الحجة :
لأنه من التناقض الحصول على حقوق تمتاز بأنها اخلاقية بوسائل لا اخلاقية "
القوة " ، فالحقوق من القيم التي تتأسس علها العدالة ، وعليه فالعدل والحق
من المبادئ الاخلاقية ومن ثـمّ لا يجوز تحقيقهما بوسائل لا اخلاقية ، لأن
أخلاقية الغاية تفرض بالضرورة اخلاقية الوسيلة .
كما ان ثبات الكثير من الحقوق يستبعد تأسيسها
على القوة او الاعتماد عليها في تحصيلها ، لأنها متغيرة ، وكل ما تأسس على
متغير كان متغيرا بالضرورة .
ثم ان تاريخ المجتمعات يوكد – من جهة أخرى – أن
نسبة كبيرة من الحقوق التي يتمتع بها الافراد ، لم يعتمد على القوة في
نيلها وتحصيلها .
2- النقد :
ولكن القول ان القوة ليست مشروعة في نيل الحقوق ، لا يمنع من كونها وسيلة
مشروعة للدفاع عن هذه الحقوق ضد مغتصبيها ، او للمطالبة بها ان اقتضت
الضرورة .
3- التركيب :
ان الحقوق - من حيث هي مكاسب مادية ومعنوية يتمتع بها الافراد يخولها لهم
القانون وتفرضها الاعراف – لا يمكن ارجاعا الى اساس واحد نظرا لتعدد اسسها ،
فمنها ما يتأسس على طبيعة الانسان ذاتها ، ومنها ما يتأسس على اساس
اجتماعي من حيث ان المجتمع هو الذي يمنحها لأفراده ، ومنها ما يتأسس على
ايماننا الباطني بها واحترامنا لها .
حل المشكلة :
وهكذا يتضح انه لا يمكن اعتبار القوة اساسا سليما للحقوق ، ولا وسيلة
مشروعة لنيلها ، وإن كان ذلك لا يمنعنا من اللجوء الى القوة للدفاع عن
الحقوق او المطالبة بها .
المقالة التاسعة:هل تتأسس العدالة الاجتماعية على المساواة أم على التفاوت ؟ جدلية
طرح المشكلة :كل
مجتمع من المجتمعات يسعى الى تحقيق العدل بين أفراده ، وذلك بإعطاء كل ذي
حق حقه ، ومن هنا ينشأ التناقض بين العدالة التي تقتضي المساواة ، وبين
الفروق الفردية التي تقتضي مراعاتها ، إذ ان تأسيس العدالة على المساواة
يوقع الظلم بحكم وجود تفاوت طبيعي بين الافراد ، وتأسيسها على التفاوت فيه
تكريس للطبقية والعنصرية ؛ مما يجعالنا نطرح المشكلة التالية : ماهو المبدأ
الامثل الذي يحقق عدالة موضوعية : هل هو مبدأ المساواة أم مبدأ التفاوت ؟
محاولة حل المشكلة :
عرض الاطروحة:يرى
البعض ان العدالة تتأسس على المساواة ، على اعتبار ان العدالة الحقيقية
تعني المساواة بين الجميع الافراد في الحقوق والواجبات وامام القانون ، وأي
تفاوت بينهم يعد ظلم ، ويدافع عن هذا الرأي فلاسفة القانون الطبيعي
وفلاسفة العقد الاجتماعي وكذا انصار المذهب الاشتراكي .
الحجة :-ويؤكد
ذلك ، ان الافراد – حسب فلاسفة القانون الطبيعي - الذين كانوا يعيشون في
حالة الفطرة كانوا يتمتعون بمساوة تامة وكاملة فيما بينهم ، ومارسوا حقوقهم
الطبيعية على قدم المساواة ، لذلك فالافراد سواسية ، فـ« ليس هناك شيئ
اشبه بشيئ من الانسان بالانسان » ، وعليه فالعدالة تقتضي المساواة بين جميع
الافراد في الحقوق والواجبات بحكم بطبيعتهم المشتركة ، ومادام الناس
متساوون في كل شيئ فما على العدالة الا ان تحترم هذه المساواة .
- اما فلاسفة العقد الاجتماعي ، فيؤكدون ان
انتقال الانسان من المجتمع الطبيعي الى المجتمع السياسي تـمّ بناءً على
تعاقد ، وبما ان الافراد في المجتمع الطبيعي كانوا يتمتعون بمساواة تامة
وكاملة ، لم يكونوا ليقبلوا التعاقد مالم يعتبرهم المتعاقدون معهم مساوين
لهم ، فالمساواة شرط قيام العقد ، وبالتالي فالعقد قائم على عدالة اساسها
المساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات .
- في حين ان الاشتراكيين يرون ان لا عدالة حقيقية
دون مساواة فعلية بين الافراد في الحقوق والواجبات ، ولا تتحقق المساواة
دون الاقرار بمبدأ الملكية الجماعية لوسائل الانتاج ، التي تتيح للجميع
التمتع بهذا الحق ، لأن الملكية الخاصة تكرّس الطبقية والاستغلال وهي بذلك
تقضي على روح المساواة التي هي اساس العدالة .
النقد :إن
انصار المساواة مثاليون في دعواهم الى اقامة مساواة مطلقة ، ويناقضون
الواقع ، لأن التفاوت الطبيعي امر مؤكد ، فالناس ليسوا نسخا متطابقة ولا
متجانسين في كل شيئ ، والفروق الفردية تؤكد ذلك ، ومن ثـمّ ففي المساواة
ظلم لعدم احترام الفروق الفردية الطبيعية .
عرض نقيض الاطروحة :وبخلاف
ما سبق ، يرى البعض الاخر ان العدالة لا تعني بالضرورة المساواة ، بل ان
في المساواة ظلم لعدم احترام الاختلافات بين الناس ، ومن هذا المنطلق فإن
العدالة الحقيقة تعني تكريس مبدأ التفاوت ، إذ ليس من العدل ان نساوي بين
اناس متفاوتين طبيعيا . ويذهب الى هذه الوجهة من النظر فلاسفة قدامى
ومحدثين وايضا بعض العلماء في ميدان علم النفس والبيولوجيا .
الحجة :-فأفلاطون
قديما قسم المجتمع الى ثلاث طبقات : طبقة الحكماء وطبقة الجنود وطبقة
العبيد ، وهي طبقات تقابل مستويات النفس الانسانية : النفس العاقلة
والغضبية والشهوانية ، وهذا التقسيم يرجع الى الاختلاف بين الافراد في
القدرات والمعرفة والفضيلة ، وعلى العدالة ان تحترم هذا التمايز الطبقي ،
ومن واجب الدولة ان تراعي هذه الفوارق ايضا وتوزع الحقوق وفق مكانة كل فرد .
- اما ارسطو فاعتبر التفاوت قانون الطبيعة ، حيث
ان الناس متفاوتين بطبيعتهم ومختلفين في قدراتهم وفي ارادة العمل وقيمة
الجهد المبذول ، وهذا كله يستلزم التفاوت في الاستحقاق ؛ فلا يجب ان يحصل
اناس متساوون على حصص غير متساوية ، او يحصل اناس غير متساويين على حصص
متساوية .
- وحديثا يؤكد ( هيجل 1770 – 1831 ) على مبدأ
التفاوت بين الامم ، وان الامة القوية هي التي يحق لها امتلاك كل الحقوق
وتسيطر على العالم ، على اساس انها افضل الامم ، وعلى الامم الاخرى واجب ،
هو الخضوع للامة القوية.
- وفي نفس الاتجاه ، يذهب ( نيتشه 1844 – 1900 )
ان التفاوت بين الافراد قائم ولا يمكن انكاره ، فيقسم المجتمع الى طبقتين :
طبقة الاسياد وطبقة العبيد ، وان للسادة اخلاقهم وحقوقهم ، وللعبيد
اخلاقهم وواجباتهم .
- أما انصار المذهب الرأسمالي فيقيمون العدل على
اساس التفاوت ، فالمساواة المطلقة مستحيلة وفيها ظلم ، إذ لا يجب مساواة
الفرد العبقري المبدع بالفرد العادي الساذج ، ولا العامل المجد البارع
بالعامل الكسول الخامل ، بل لابد من الاعتراف بهذا التفاوت وتشجيعه ، لأن
ذلك يبعث على الجهد والعمل وخلق جو من المنافسة بين المتفاوتين .
- ويؤكد بعض العلماء ان كل حق يقابله واجب ، غير
ان قدرة الافراد في رد الواجب المقابل للحق متفاوتة في مجالات عدة : فمن
الناحية البيولوجية ، هناك اختلاف بين الناس في بنياتهم البيولوجية
والجسمانية ، مما ينتج عنه اختلاف قدرتهم على العمل ورد الواجب ، لذلك فليس
من العدل مساواتهم في الحقوق ، بل يجب ان نساعد أولئك الذين يملكون افضل
الاعضاء والعقول على الارتقاء اجتماعيا ، يقول الطبيب الفيزيولوجي الفرنسي (
ألكسيس كاريل 1873 – 1944 ) : « بدلا من ان نحاول تحقيق المساواة بين
اللامساواة العضوية والعقلية ، يجب توسيع دائرة هذه الاختلافات وننشئ رجالا
عظماء » . ومن الناحية النفسية ، نجد تمايز بين الافراد من حيث مواهبهم
وذكائهم وكل القدرات العقلية الاخرى ، ومن العبث ان نحاول مساواة هؤلاء
المتفاوتون طبيعيا .
واخيرا ومن الناحية الاجتماعية ، فالناس ليسوا
سواء ، فهناك الغني الذي يملك والفقير الذي لا يملك ، والملكية حق طبيعي
للفرد ، وليس من العدل نزع هذه الملكية ليشاركه فيها آخرين بدعوى المساواة .
النقد :ان
التفاوت الطبيعي بين الافراد امر مؤكد ولا جدال فيه ، غير انه لا ينبغي ان
يكون مبررا لتفاوت طبقي او اجتماعي او عرقي عنصري . كما قد يكون الاختلاف
في الاستحقاق مبنيا على فوارق اصطناعية لا طبيعية فيظهر تفاوت لا تحترم فيه
الفروق الفردية .
التركيب :ان
المساواة المطلقة مستحيلة ، والتفاوت الاجتماعي لا شك انه ظلم ، وعلى
المجتمع ان يحارب هذا التفاوت ليقترب ولو نسبيا من العدالة ، ولا يكون ذلك
الا بتوفير شروط ذلك ، ولعل من أهمها اقرار مبدأ تكافؤ الفرص والتناسب بين
الكفاءة والاستحقاق ومحاربة الاستغلال .
حل المشكلة :وهكذا
يتضح ان العدالة هي ما تسعى المجتمعات قديمها وحديثها الى تجسيدها ، ويبقى
التناقض قائما حول الاساس الذي تبنى عليه العدالة ، غير ان المساواة – رغم
صعوبة تحقيقها واقعا – تبقى هي السبيل الى تحقيق هذه العدالة كقيمة
اخلاقية عليا .
المقالة العاشرة :هل يمكن إبعاد القيم الاخلاقية من الممارسة السياسية ؟ جدلية .
I- طرح المشكلة :إن
الدولة وجدت لإجل غايات ذات طابع أخلاقي ، مما يفرض أن تكون الممارسة
السياسية أيضا أخلاقية ، إلا أن الواقع يكشف خلاف ذلك تماماً ، سواء تعلق
الامر بالممارسة السياسية على مستوى الدولة الواحدة أو على مستوى العلاقات
بين الدول ، حيث يسود منطق القوة والخداع وهضم الحقوق .. وكأن العمل
السياسي لا ينجح إلا إذا أُبعدت القيم الاخلاقية ؛ فهل فعلا يمكن إبعاد
الاعتبارات الاخلاقية من العمل السياسي ؟
- محاولة حل المشكلة :
1-أ- عرض الاطروحة:يرى
بعض المفكرين ، أن لاعلاقة بين الاخلاق والسياسة ، لذلك يجب إبعاد
الاعتبارات الاخلاقية تماماً من العمل السياسي ، وهو ما يذهب إليه صراحة
المفكر الايطالي " ميكيافيلي 1469 –1527 " في كتابه " الامير " ، حيث يرى
أن مبدأ العمل السياسي هو : « الغاية تبرر الوسيلة » ، فنجاح العمل السياسي
هو ما يحققه من نتائج ناجحة كإستقرار الدولة وحفظ النظام وضمان المصالح
الحيوية .. بغض النظر عن الوسائل المتبعة في ذلك حتى وإن كانت لاأخلاقية ،
بل ويذهب الى أبعد من ذلك ، فيزعم أن الاخلاق تضر بالسياسة وتعرقل نجاحها ،
وان الدول التي تبني سياستها على الاخلاق تنهار بسرعة.
ويوافقه في ذلك أيضاً فيلسوف القوة " نيتشه 1844
–1900 " ، الذي يرى أن السياسة لا تتفق مع الاخلاق في شيئ ، والحاكم المقيد
بالاخلاق ليس بسياسي بارع ، وهو لذلك غير راسخ على عرشه ، فيجب على طالب
الحكم من الالتجاء الى المكر والخداع والرياء ، فالفضائل الانسانية العظيمة
من الاخلاص والامانة والرحمة والمحبة تصير رذائل في السياسة . وعلى الحاكم
أن يكون قوياً ، لأن الاخلاق هي سلاح الضعفاء ومن صنعهم .
1-ب - الحجة:وما
يبرر ذلك أن المحكوم إنسان ، والانسان شرير بطبعه ، يميل الى السيطرة
والاستغلال والتمرد وعدم الخضوع الى السلطة المنظمة ، ولو ترك على حاله
لعاد المجتمع الى حالته الطبيعية ، فتسود الفوضى والظلم واستغلال القوي
للضعيف ، ويلزم عن ذلك استعمال القوة وجميع الوسائل لردع ذلك الشر حفاظا
على استقرار الدولة ويقائها .
ومن جهة ثانية ، فالعلاقات السياسية بين الدول
تحكمها المصالح الحيوية الاستراتيجية ، فتجد الدولة نفسها بين خيارين : إما
تعمل على تحقيق مصالحها بغض النظر عن الاعتبارات الاخلاقية ، وإما تراعي
الاخلاق التي قد لا تتفق مع مصالحها ، فتفقدها ويكون مصيرها الضعف
والانهيار .
1جـ - النقد :ولكن
القول أن الانسان شرير بطبعه مجرد زعم وإفتراض وهمي ليس له أي أساس من
الصحة ؛ فالانسان مثلما يحمل الاستعداد للشر يحمل أيضا الاستعداد للخير ،
ووظيفة الدولة تنمية جوانب الخير فيه ، أما لجوئها الى القوة فدليل على
عجزها عن القيام بوظيفتها ، والا فلا فرق بين الدولة كمجتمع سياسي منظم
والمجتمع الطبيعي حيث يسود منطق الظلم والقوة .
هذا ، واستقراء ميكيافيلي للتاريخ إستقراء ناقص ،
مما لا يسمح بتعميم أحكامه ، فهو يؤكد – من التاريخ – زوال الدول التي
بنيت على اسس أخلاقية ، غير أن التاريخ نفسه يكشف ان الممارسة السياسية في
عهد الخلفاء الراشدين كانت قائمة على اساس من الاخلاق ، والعلاقة بين
الخليفة والرعية كانت تسودها المحبة والاخوة والنصيحة ، مما أدى الى ازدهار
الدولة لا إنهيارها .
وأخيراً ، فالقوة أمر نسبي ، فالقوي اليوم ضعيف
غداً ، والواقع أثبت أن الدول والسياسات التي قامت على القوة كان مصيرها
الزوال ، كما هو الحال بالنسبة للانظمة الاستبدادية الديكتاتورية .
2-أ-عرض نقيض الاطروحة :
وخلافا لما سلف ، يعتقد البعض الاخر أنه من الضروري مراعاة القيم
الاخلاقية في الممارسة السياسية ، سواء تعلق الامر بالعلاقة التي تربط
الحاكم والمحكومين على مستوى الدولة الواحدة ، أو على مستوى العلاقات بين
الدول . ومعنى ذلك ، أن على السياسي أن يستبعد كل الوسائل اللااخلاقية من
العمل السياسي ، وأن يسعى الى تحقيق العدالة والامن وضمان حقوق الانسان
الطبيعية والاجتماعية . وهذا ما دعا إليه أغلب الفلاسفة منذ القديم ، فهذا "
أرسطو " يعتبر السياسة فرعاً من الاخلاق ، ويرى أن وظيفة الدولة الاساسية
هي نشر الفضيلة وتعليم المواطن الاخلاق . ثم حديثا الفيلسوف الالماني "
كانط 1724 –1804 " ، الذي يدعو الى معاملة الانسان كغاية في ذاته وليس
كمجرد وسيلة ، كما دعا في كتابه " مشروع السلام الدائم " الى إنشاء هيئة
دولية تعمل على نشر السلام وفك النزاعات بطرق سلمية وتغليب الاخلاق في
السياسة ، وهو ما تجسد – لاحقا – في عصبة الامم ثم هيئة الامم المتحدة ،
كما دعا الى ضرورة قيام نظام دولي يقوم على الديمقراطية والتسامح والعدل
والمساواة بين الشعوب والامم . ومن بعده ألـحّ فلاسفة معاصرون على أخلاقية
الممارسة السياسية ، أبرزهم الفرنسي " هنري برغسون 1856 – 1941 " و
الانجليزي " برتراند رسل 1871 –1969 " .
2-ب-الحجة: إن
الدولة خصوصاً والسياسة عموما ً إنما وجدتا لأجل تحقيق غايات أخلاقية
منعدمة في المجتمع الطبيعي ، وعليه فأخلاقية الغاية تفرض أخلاقية الوسيلة .
كما أن ارتباط السياسة بالاخلاق يسمح بالتطور والازدهار نتيجة بروز الثقة
بين الحكام والمحكومين ، فينمو الشعور بالمسؤولية ويتفانى الافراد في العمل
.
ثم ان غياب الاخلاق وابتعادها من المجال السياسي
يوّلد انعدام الثقة والثورات على المستوى الداخلي ، أما على المستوى
الخارجي فيؤدي الى الحروب ، مع ما فيها من ضرر على الامن والاستقرار وإهدار
لحقوق الانسان الطبيعية ، وهذا كله يجعل الدولة تتحول الى أداة قمع وسيطرة
واستغلال .
2-جـ النقد :لا
يمكن إنكار أهمية دعوة الفلاسفة الى أخلاقية الممارسة السياسية