بسم الله الرحمن الرحيم
الفوائد
للامام الجليل شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب
الزرعي
المعروف بابن القيّم
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] بدأنا العمل في 12\11\2001
حق الاقتباس والنقل والنسخ والطبع مفتوح للجميع مع الدعاء لي في ظهر الغيب
الحقوق محفوظة لكل المسلمين لمن يريد الاصلاح منهم
تحقيق
ماهر منصور عبد الرزاق كمال علي الجمل
مدرّس الحديث وعلومه مدرّس الحديث المساعد
جامعة الأزهر
هذا كتاب فيه جمّ فوائد
يهدي الى الخلق الكريم الفاضل
فاحفظ فوائده وأوعب جمعها
وأعمل بها تسعد بفوز عاجل
واطلب لكاتبه صلاح مآله
وعموم مغفرة بعفو هاطل
والله أرجو أن يجيب سؤالنا
فهو المجيب لكل عبد سائل
قال الشيخ الامام, محي السنّة قامع البدعة, أبو عبد الله الشهير بابن القيّم الجوزيّة رحمه الله تعالى:
[1] قاعدة جليلة
الانتفاع بالقرآن وشروطه
اذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه, وألف سمعك, ,احضر حضور من يخاطبه به من تكلّم به سبحانه منه اليه, فانّه خطاب منه لك, على لسان رسوله, قال تعال:{ انّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}. سورة ق 37.
وذلك أن تمام التأثير لمّا كان موقوفا على مؤثر مقتض, ومحل قابل, وشرط لحصول الأثر, وانتقاء المانع الذي يمنع منه, تضمّنت الآية بيان ذلك كلّه بأوجز لفظ وأبينه, وادلّه على المراد.
فقوله تعالى:{ انّ في ذلك لذكرى} اشارة الى ما تقدّم من أوّل السورة الى ها هنا وهذا هة المؤثّر.
وقوله:{ لمن كان له قلب} فهذا هو المل القابل, والمراد به القلب الحيّ الذي يعقل عن الله, كما قال تعالى:{ ان هو الا ذكر وقرآن مبين.لينذر من كان حيّا} يس 69-70 . أي حي القلب.
وقوله: {أو ألقى السمع} أي وجّه سمعه وأصغى حاسّة سمعه الى ما يقال له, وهذا شرط التأثّر بالكلام.
وقوله: {وهو شهيد} أي شاهد القلب حاضر غير غائب.
قال ابن قتيبة: " استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم, ليس بغافل ولا ساه". وهو اشارة الى المانع من حصول التأثير, وهو سهو القلب, وغيبته عن تعقّل ما يقال له, والنظر فيه وتأمّله. فاذا حصل المؤث وهو القرآن, والمحل القابل وهو القلب الحي, ووخد الشرط وهو الاصغاء, وانتقى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب, وانصرافه عنه الى شئ آخر, حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكّر.
فان قيل: اذا كان التأثير انما يتم بمجموع هذه, فما وجه دخول أداة "أو" في قوله "أو ألقى السمع", والموضع موضع واو الجمع لا موضع "أو" التي هي لأحد الشيئين.
قيل: هذا سؤال جيّد والجواب عنه أن يقال: خرج الكلام ب"أو" باعتبار حال المخاطب المدعو
, فان من الناس من يكون حي القلب واعيه, تام الفطرة, فاذا فكّر بقلبه, وجال بفكره, دلّه قلبه وعقله على صحّة القرآن, وأنه الحق, وشهد قلبه بما أخبر به القرآن, فكان ورود القرآن على قلبه نورا على نور الفطرة, وهذا وصف الذين قيل فيهم: ويرى الذين أؤتوا العلم الذي أنزل اليك من ربك هو الحق} سبأ 6. وقال في حقّهم:{ الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درّي يوقد من شجرة مباركة زستونة لا شرقيّة ولا غربيّة, يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكلّ شئ عليم}النور 35.
فهذا نور الفطرة على نور الوحي, وهذا حال صاحب القلب الحيّ الواعي.
قال ابن القيّم: وقد ذكرنا ما تضمّنت هذه الآية من الأسرار والعبر في كتاب "اجتماع الجيوش الاسلامية لغزو المعطّلة والجهميّة" ص 7-8. فصاحب القلب يجمع بين قلبه وببن معاني القرآن, فيجدها كأنها قد كتبي فيه, فهو يقرؤها عن ظهر قلب. ومن الناس من لا يكون تام الاستعداد, واعي القلب, كامل الحياة, فيحتاج الى شاهد يميّز له بين الحق والباطن, ولم تبلغ حياة قلبه ونوره وذكاء فطرته مبلغ صاحب القلب الواعي الحي, فطريق حصول هدايته أن يفرغ سمعه للكلام, وقلبه لتأمّله, والتفكر فيه, وتعقل معانيه, فيعلم حينئذ أنه الحق.
فالأول: حال من رأى بعينه ما دعى اليه وأخبر به. والثاني: من علم صدق المخبر وتيقّنه, وقال يكفيني خبره, فهو في مقام الايمان, والأوّل من مقام الاحسان. وهذا قد وصل الى علم اليقين, وترق قلبه منه الى منزلة عين اليقين, وذاك معه التصديق الجازم الذي خرج به من الكفر ودخل به في الاسلام.
فعين اليقين نوعان: نوع في الدنيا, ونوع في الآخرة, فالحاصل في الدنيا نسبته الى القلب كنسبة الشاهد الى العين. وما أخبرت به الرسل من الغيب يعاين في الآخرة بالأبصار, وفي الدنيا بالبصائر, فهو عين اليقين في المرتبتين.
[2] سورة (ق) جامعة لأصول الايمان
وقد جمعت هذه السورة من أصول الايمان ما يكفى ويشفى, ويغني عن كلام أهل الكلام, ومعقول أهل المعقول, فانها تضمّنت تقرير المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوّة والايمان بالملائكة, وانقسام الناس الى هالك شقي, وفائز سعيد, وأوصاف هؤلاء وهؤلاء. وتضمّنت اثبات صفات الكمال لله, وتنزيهه عما يضاد كماله من النقائص والعيوب. وذكر فيها القيامتان الكبر والصغرى, والعالمين: الأكبر, وهو عالم الآخرة, والأصغر وهو عالم الدنيا. وذكر فيها خلق الانسان ووفاته واعادته, واحاطته سبحان به من كل وجه, حتى علم بوساوس نفسه, واقامة الحفظة عليه, يحصون عليه كل لفظة يتكلم بها, وأنه يوافيه يوم القيامة, ومعه سائق يسوقه اليه, وشاهد يشهد عليه, فاذا أحضره الشاهد قال: {هذا ما لديّ عتيد},ق 23. أي هذا الذي أمرت باحضاره قد أحضرته, فيقال عند احضاره:{ ألقيا في جهنّم كلّ كفّار عنيد}, ق24. كما يحضر الجاني الى حضرة السلطان فيقال: هذا فلان قد أحضرته, فيقول: اذهبوا به الى السجن وعاقبوه بما يستحقّه.
وتأمّل كيف دلّت السورة صريحا على أن الله سبحانه وتعالى يعيد هذا الجسد بعينه الذي أطاع وعصى, فينعمه ويعذّبه, كما ينعم الروح التي آمنت بعينها, ويعذّب التي كفرت بعينها, لا أنه سبحانه يخلق روحا أخرى غير هذه فينعمها ويعذبها كما قال من لم يعرف المعاد الذي أخبرت به الرسل, حيث زعم أن الله سبحانه يخلق بدنا غير هذا البدن من كل وجه, عليه يقع النعيم والعذاب, والروح عندهم عرض من أعراض البدن, فيخلق روحا غير هذه الروح, وبدنا غير هذا البدن وهذا غير ما اتفقت عليه الرسل ودلك عليه القرآن والسنّة وسائر كتب الله تعالى .
وهذا في الحقيقة انكار للمعاد وموافقة لقول من أنكره من المكذبين, فانهم لم ينكروا قدرة الله على خلق أجسام غير هذه الأجسام يعذبها وينعمها, كيف وهم يشهدون النوع الانساني يخلق شيئا بعد شئ! فكل وقت يخلق الله سبحانه أرواحا وأجساما غير الأجسام التي فنيت, فكيف يتعجّبون من شئ يشاهدونه عيانا؟ وانّما تعجّبوا بعودتهم بأعيانهم بعد أن مزّقهم البلى وصاروا عظاما ورفاتا, فتعجّبوا أن يكونوا هم بأعيانهم مبعوثين للجزاء, لهذا قالوا :{ أئذا متنا وكنّا ترابا أئنّا لمبعوثون} الصافت16. وقالوا: {ذلك رجع بعيد} ق 3.
ولو كان الجزاء انما هو لأجسام غير هذه, لم يكن ذلك بعثا ولا رجعا, بل يكون ابتداء, ولم يكن لقوله:{ قد علمنا من تنقص الأرض منهم},ق4. كبير معنى. فانه سبحانه جعل هذا جوابا لسؤال مقدّر, وهو: انّه يميز تلك الأجزاء التي اختلطت بالأرض واستحالت الى العناصر بحيث لا تتميّز, فأخبر سبحانه بأنه قد علم ما تنقصه الأرض من لحومهم وعظامهم وأشعارهم, وأنه كما هو عالم بتلك الأجزاء, فهو قادر على تحصيلها وجمعها بعد تفرّقها وتأليفها خلقا جديدا, وهو سبحانه يقرر المعاد بذكر كمال علمه, وكمال قدرته, وكمال حكمته, فان شبه المنكرين له كلها تعود الى ثلاثة أنواع:
(أحدها): اختلاط أجزائهم بأجزاء الأرض على وجه لا يتميّز ولا يحصل معه تميز شخص عن شخص آخر.
(الثاني): أن القدرة لا تتعلّق بذلك.
(الثالث): أن ذلك أمر لا فائدة فيه, أو أن الحكمة اقتضت دوام هذا النوع الانساني شيئا بعد شئ, هكذا أبدأ, كلما مات جيل خلفه جيل آخر. فأمّا أن يميت النوع الانساني كله ثم يحييه فلا حكمة في ذلك.