صدام حسيــن عن قرب :
قوي البنية ، شديد اللهجة ، مهيب الحركة ، أنيق الثياب ، لا يخاف أحداً ولا يتهاون مع أي إنسان حتى ولو كان أحد فلذات كبده ، لا يثق إلا في نفسه ولا يترك مجالاً للآخرين حتى يفكرون في خيانته ، ينزع نحو السيطرة المطلقة والاستبداد ، ولا يحب الظهور بمظهر الضعيف المسكين ، يخاف من الموت بقدر محبته للحياة ، يخشى من أقرب الناس إليه قبل أن يخشى من الأعداء المتمركزين بأسلحتهم على باب بيته ، مستعد للتحالف مع الشيطان لتحقيق أهدافه ومستعد لمحاربة الشيطان عندما يفكرالشيطان في خيانته ، أعصابه من الثلج عندما يحكم على أحد بالإعدام وكلماته مثل السياط عندما ينتقد أحد أتباعه ، شخصيته قوية وجبارة ومظهره رهيب وشديد ، حارق العينين ، غليظ الشاربين ، ضحكته باردة وتتردد كالصدى ، وصرخته الرخيمة تمزق أحشاء السكوت ... هذا هو صدام حسين .. الزعيم العراقي الذي تخافه أمريكا ويخافه العرب ولا يعرف إلا قانوناً واحداً للتفاهم ويقول نص هذا القانون : أقتلك ببندقيتي وبعدها نتفاهم على الانصياع لما أريد !!
صدام حسين زعيم كغيره من الزعماء العرب وصل إلى الحكم بعد سلسلة طويلة من الاغتيالات والخيانات واختار صدام طريقة اعتقد أنها حكيمة للسيطرة على العراق وهي (الديكتاتورية) التي تعلمها من الظروف المحيطة به ومن التاريخ الذي شهد مئات الملوك والأباطرة الذين يتعاملون بقوة وبعنف مع كل الخارجين عن السمع والطاعة ولكن صدام نسي أنه يعيش في العصر الحديث الذي انتشرت فيه مبادئ المساواة والديمقراطية والحرية وهي شعارات الولايات المتحدة الأمريكية التي تقود العالم إلى مزيد من الإرهاب وإلى مزيد من العنصرية والقهر والظلم ..
صدام ليس قطاً بسبعة أرواح لا يموت أبداً وليس ملاكاً بريئاً يتصرف برحمة وإنسانية كما أنه ليس ذلك القائد المسلم التقي الورع وهو بالتأكيد ليس ذلك المجرم السفاح الذي يشرب من دماء الناس ويقتل بشراسة وعنصرية مع كل من هب ودب ، ولكنه زعيم أدرك أن أفضل وسيلة للسيطرة على الأمور في العراق تقضي بإزاحة كل المنافسين دون هوادة وإخماد كل الثورات والنزعات التحررية بلا رحمة والقضاء على كل المتمردين والخارجين عن طاعة ولي الأمر وهذا هو أفضل حل للسيطرة على الشعب العراقي الشرس وهي أفضل طريقة لإرضاء جميع الأحزاب السياسية والقومية التي يتكون منها العراق الذي شهد خلال تاريخه أحقاباً من العنف والقتل وسفك الدماء منذ فجر التاريخ مروراً بالحضارة الفارسية والإسلامية والتتار و.... انتهاء باليوم الذي نكتب فيه سقوط آخر حقبة يمر بها العراق وهي حقبة الرئيس العراقي الهارب إلى مزبلة التاريخ .. ذلك الرجل الديكتاتور الذي اعتبره الجميع ظالماً ( صدام حسين ) ..
طفولته وصباه ونشأته :
نزح ( عمر بيك ) مع أولاده من جنوب العراق إلى مدينة تكريت التي تقع في شمال العراق وهذا قبل مائة سنة أو أكثر بقليل وليس معلوماً من أي المدن أو القرى في الجنوب نزح عمر بيك ولا أحد يدري عن أصله وأسماء أجداده وعن سبب تسميتهم بلقب ( بيك ) وادعى خير الله طلفاح ( خال صدام حسين ) أن نسبهم يتصل بآل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن دون دليل قاطع سوى روايات وشهادات رجال دين من النجف وكربلاء ربما أجبروا على قولها خوفاً من بطش وجبروت صدام وعائلته !
تعلق اسم صدام حسين بمدينة تكريت التي نالت بعد وصول صدام حسين للحكم شرفاً وعزة لم يكن أحد أهلها في الخمسينيات يتوقع أن تصل مدينة تكريت لهذه المكانة ، وتعود شهرة تكريت تاريخيا إلى أنها كانت مسقط رأس صلاح الدين القائد الإسلامي الشهير الذي هزم الصليبيين الغزاة في فلسطين ، وكدليل على أن هذه المدينة ( دموية ) فقد زارها تيمورلنك سليل جنكيزخان القائد المغولي العظيم في سنة 1394 لبناء هرم من جماجم ضحاياه المهزومين كأبشع ما يكون الغرور والكبرياء وكأفظع ما يكون القهر والظلم !
صدام ابن قرية العوجـا :
يتميز أهالي مدينة تكريت بالكرم والتمسك بالدين كما يشتهرون بالهدوء والمسالمة وهذا دفعهم إلى مقاطعة ليست معلنة على كل الأغراب النازحين من المدن والقرى الأخرى إلى تكريت لأن الكثير منهم يتجولون بسلاحهم ويتميزون بالعنجهية والغطرسة وقد يكونون فارين من قرى أو مدن أخرى بسبب ثأر أو مشاكل عائلية فهم أهل مشاكل ونزاع وأقل مسالمة وأكثر ما يكونون بعيدين عن الدين ، ولذلك قرر ( عمر بيك ) أحد هؤلاء الأغراب أن يرحل بأسرته إلى قرية في جنوب تكريت أطلق عليها اسم (العوجا) فبنى داراً صغيرة من الطين على ضفة النهر وبدأ في العيش عيشة الفلاحين التي تعتمد على زراعة المحاصيل الزراعية وخصوصاً الخضراوات وتربية الأغنام والدجاج وجاءت تسمية ( العوجا ) من طباع أهل هذه القرية فطبائعهم عوجاء وأفعالهم غير مستقيمة ، وقد تولت مع مرور الزمن الكراهية في قلوب أهل العوجا على أهل تكريت لكن حياتهم استمرت على مبدأ التحفظ والعيش بسلام حفظاً للأرواح والممتلكات ..!
رسميا ولد صدام يوم 28 ابريل سنة 1937 في بيت يملكه خاله خير الله طلفاح ، ولأن صدام كان أنانياً ومحباً لذاته جعل هذا التاريخ ابتداء من سنة 1980 عطلة رسمية يحتفل بها الشعب العراقي بأكمله ، وهناك من يقول أنه ولد قبل ذلك التاريخ أو بعده بسنتين .
أطفال تكريت يحتفلون بميلاد صدام
كان صدام في طفولته طفلاً حزيناً وانطوائياً لأنه كان يتعرض للضرب والتعذيب من قبل زوج أمه ( حسن الإبراهيم ) الذي كان يضربه صباحاً ومساءاً وعلى كل كبيرة وصغيرة فقد كان زوج أمه الذي قيل أنه كان كاذباً سيئاً يعامل صدام معاملة سيئة لدرجة جعلت الجميع يشفق على هذا الصغير المضروب دائماً وزوج أمه لم يكن يعرف أن هذا الذي يضربه سيصبح ذات يوم جلاداً يضرب العراق وجيرانها ..!
الضرب خلق في نفس صدام طباع القسوة والعنف كما أن الفقر ورّث في نفسه طباع الأنانية وحب الذات !
نعم كان صدام حسين ومنذ طفولته أنانياً لا يحب سوى ثلاثه أولهم نفسه وثانيهم أمه ( صبحه ) وثالثهم خاله خير الدين طلفاح ومن شدة محبته لأمه أقام لها نصباً تذكارياً بعد وفاتها عام 1982 كما أنه كان رفيق خاله وتلميذه النجيب وتابعه الدائم الذي يرافقه في كل مكان ويصدقه في كل كبيرة وصغيرة !
نشأ صدام حسين في بلدة ( العوجا ) في هذه البيئة الفقيرة وتربى على الغلظة والقسوة متأثراً بطبائع الناس المحيطين به فأكثرهم من الجهلة والفلاحين رفيعي الأنوف الذين لم يعتادوا أبداً على حياة الليونة والسمع والطاعة كما هم أهل المدينة ، فكان أهل ( العوجا ) كما هم ( الأعراب ) أشد غلظة وأكثر قسوة ونفاقاً فلا تراهم يعرفون المجاملة والمعاشرة بالمعروف ولا يقدرون العلم والعلماء وينتشر بينهم كما في الكثير من الدول العربية ( الدين الشعبي ) وهو أن الدين في الصلاة والصيام والابتعاد عن كبائر المحرمات بينما تكون معاملة الناس سيئــة ومعاشرتهم لغيرهم بقوة الذراعين !
كان صدام طفلاً عادياً من حيث حياته اليومية حيث كان طالباً في المدرسة يذهب في الصباح ويعود مع الظهر وكان أقصى أحلامه كما يقول أحد رفاقه امتلاك سيارة ( جيب ) وبندقية و ( دوربين ) وهو المنظار ليصبح بهذه الأحلام رئيساً لبلاد الرافدين ويضع رأسه في رأس الولايات المتحدة الأمريكية أقوى دولة في العالم الجديد !!
صدام وهو في أواخر العشرينيات
صدام عندما كان عمره 14 سنة
كبر صدام حسين وكبرت معه أحلامه وفي كل يوم يزداد صدام قوة وصلابة ويزداد رأسه عناداً وتجبراً ويزداد قلبه قسوة وغلاظة حتى وصل إلى المرحلة الثانوية وهنا كان صدام بشهادة الدكتور حسن العطار مدير مدرسة تكريت الثانوية فى منتصف الخمسينات هو الطالب الوحيد الذي كان يتغيب كثيرا عن المدرسة بدون عذر ليذهب إلى قرية العوجة مسقط رأسه حتى تجاوزت فترة غيابه 25 يوما بدون عذر مقبول فأضاع أكثر من 51 فى المائة من درجات المواظبة ولذلك فقد تقرر اعتباره راسباً في الصف الثانى الثانوى حسب نظام المدارس الثانوية العراقية لعام 1952 .
ويتابع الدكتور حسن العطار حديثه مدعياً أن صدام حاول اغتياله ببندقية صيد إلا أن الشرطة قبضت عليه وسامحه بعد تدخل عدد من وجهاء مدينة تكريت فلم يفصل مع ذلك صدام فصلا مؤبداً بل قرر رسوبه فى تلك السنة فقط حفاظا على مستقبل الطالب الذي لم يكن قد بلغ سن الثامنة عشرة من عمره بعد !!
ونشير هنا إلى أن أول قرار اتخذه صدام حسين بعد أن قويت شوكته فى حزب البعث العراقى كان فصله من عمله في عام 1973 .
الملكيـــة في العـــراق
الأمير عبدالإله
فيصل الثاني
غازي الأول
فيصل الأول
كان العراق جزءاً من الدولة الإسلامية العثمانية ، وفي عام 1920 أقام الملك فيصل بن الحسين ( فيصل الأول ) مملكة في العراق من خلال معاهدة مع بريطانيا ، وفي عام 1932 استقل العراق وشارك في عصبة الأمم.
توفي الملك فيصل سنة 1933 وخلفه ابنه غازي الأول الذي ألغى الأحزاب السياسية وفرض نوعاً من الحكم الشمولي في العراق وهذا أدى إلى ثورة القبائل الكردية فعزز الملك غازي من مكانة الجيش وقوى شوكته واستمر الملك غازي في الحكم حتى توفي في حادث سيارة سنة 1939 عندما اصطدم بسيارته بعمود التلغراف قريباً من قصره .
تولى فيصل الثاني ابن الملك غازي الحكم تحت الوصاية وهو لم يبلغ الثالثة من عمره، وكان الوصي عبد الإله بن علي ومعه نوري السعيد هما اللذان يديران الدولة ، واندلعت في هذه الأثناء (1941) ثورة رشيد عالي الكيلاني ، واستمرت حالة من عدم الاستقرار تخيم على الأوضاع السياسية في العراق تخللتها ثورة القبائل الكردية عامي 1945 و1946 ثم معاهدة التعاون العسكري المشترك بين العراق والأردن عام 1947، وانتفاضة أكتوبر عام 1952 التي طالبت بانتخابات مباشرة وإعطاء بعض الحدود لصلاحيات الملك .
في خضم هذه الأحداث ولد صدام وعاش حياة الصبا والمراهقة والشباب فليس من الغريب أن يبدأ صدام حياته السياسية كناشط شاب مثله مثل أي شاب يحمل بين ضلوعه حب السلطة والسيطرة والسياسة ففي بغداد وفي أواخر الخمسينات ربما كان صدام عضوا في (الفتوة) ، وهي منظمة شبيبة شبه عسكرية على غرار ( شبيبة هتلر ) ، والتي شكلت أثناء حكم الملك غازي في الثلاثينات وكانت هذه المجموعة تتكون من مجموعة من الشباب والمراهقين وتدعو إلى أن يعمل العراق على توحيد العرب بالكيفية نفسها التي وحد بها سكان بروسيا الألمان !
في عام 1957 قرر صدام حسين الانضمام إلى حزب البعث الذي كان يعمل بشكل سري في تلك الفترة في العراق والذي كان يبشر بفكرة الاشتراكية العربية وكانت أهدافه هي العمل على تحقيق الوحدة والحرية والاشتراكية في الوطن العربي والشعار الدائم لحزب البعث في سوريا والعراق هو : ( أمة عربية واحدة ، ذات رسالة خالدة ) .
وللعلم أقول أن العرب منذ أن خرجوا من الصحراء ليقودوا العالم بأسره لم يقودوه إلا تحت شعار واحد هو ( لا إله إلا الله .. محمد رسول الله ) ولن يعودوا لقيادته إلا تحت هذا الشعار أما إنشاء الأحزاب والتجمعات فهذا مجرد وهم زرعه أعداء الإسلام في نفوس العرب ليزدادوا ضعفاً وهواناً إلى ضعفهم وهوانهم ، وهنا أذكر بالقول الإلحادي لأحد الشعراء مادحاً حزب البعث :
رضيت بالبعث رباً لا شريك له ... وبالعروبة ديناً ما له ثانِ
كان الملك فيصل الثاني والأمير عبد الإله ونوري السعيد وصالح جبر هم أقطاب الحكم الملكي في العراق ولم يكونوا قساة ولا قتلة لكن النظام الملكي خلق فجوة عظيمة بين أفراد الشعب والحكام فتكونت طبقة الأغنياء الأثرياء وملاك الأراضي وطبقة أخرى هي طبقة الفقراء المعوزين والفلاحين لكن النظام الملكي كان يطبق الدستور ويصون البرلمان ويصون الأمة وكان الملك شاباً محبوباً لدى الشارع العراقي ورغم كل التناقضات التي امتلأ بها الوسط العراقي فقد سادت سلطة القانون المطلق والمحاكم العادلة والقضاء المستقل والدستور الدائم والانتخابات، وكان القانون يضمن الحق في التظاهر والإضراب لأبناء الشعب.
السقـــوط الدمــوي للملكيـــة في العــراق
في صباح يوم 14 يوليو 1958 قرر مجموعة من الضباط العراقيين الذين يطلقون على أنفسهم لقب ( الضباط الأحرار ) تغيير الوضع السياسي في العراق فاقتحموا القصر الملكي العراقي ( قصر الرحاب ) وقاموا بقتل الملك فيصل الثاني ( 23 سنة ) وخالته الأميرة عابدية وجدته الأميرة نفيسة ، وقتل عبد الإله الوصي على عرش العراق وكل من في القصر من العائلة الملكية الحاكمة في العراق حتى لا يقوم للنظام الملكي أي قائمة بعد هذا التاريخ ويقال أنها كانت مجزرة دموية بشعة في التاريخ العراقي الحديث وأنهت هذه المجزرة الحكم الملكي العراقي الذي بدأ سنة 1921 ومن الروايات البشعة أنه تم أخذ جثة الأمير عبد الإله وتعريتها وربطها بالحبال ومن ثم سحبها في الشوارع ومن ثم علقت على مدخل وزارة الدفاع وبعدها أعيد سحبها وسحلها وتمزيق أوصالها إلى أن تشتت الأوصال ما بين محروق وملقى في النهر ومحروق كأبشع ما يكون التمثيل في الجثث وبعدها بدأ الناس في أعمال السلب والنهب والحريق التي طالت قصر الرحاب الذي تشتعل فيه النيران ..
وبعدها كان دور نوري السعيد الذي هرب وتخفى وبعدها وجده الباحثون عنه فحاول المقاومة بمسدسه، لكنه سرعان ما تمت السيطرة عليه وقتله ولم يكتف الناس بذلك، بل إن بعض الثائرين داسوه بسيارتهم مرات عدة قبل ان يتم دفن ما تبقى من الجثة لكن مجموعة من الغوغاء نبشوا جثته ومثلوا بها، وطافوا ببعض الاجزاء في الشوارع العراقية كأبشع ما يكون التمثيل والتنكيل وهذا هو الشعب العراقي عندما يسقط أحد الأنظمة فيه ينتقم منه أبشع انتقام متناسياً في بعض الأحيان أن الضرب في الميت حـــرام !!
لا يدري أحد حجم مشاركة صدام حسين في هذه الأحداث الدموية ويقال أنه شارك هو وخاله في هذه الأحداث البشعة التي غيرت من النظام العراقي فخرج بعدها أحد قادة الانقلاب الذي نظمه الضباط الأحرار وهو عبد السلام عارف على الإذاعة العراقية وقال: ( إن الجيش قد حرر الوطن العزيز من النظام الفاسد الذي أقامته ونصبته الامبريالية ) وتمثل القرار الأول للحكومة الجديدة بإلغاء المؤسسات الرئيسية للنظام السابق بما في ذلك الملكية واعتقال أولئك الذين ساعدوا ذلك النظام.
صــدام حسيــن ومحاولــة اغتيــال عبد الكريم قاسم
عبدالكريم قاسم
كانت بريطانيا تدير العراق في الفترة بين عام 1920 و عام 1932 بحكم نظام الانتداب الذي أقرته عصبة الأمم، إلا أنها مارست دورا سياسيا كبيرا لفترة طويلة بعد تلك الفترة فكانت الشركات الأجنبية مسيطرة على الثروة البترولية ومتدخلة في بعض الشؤون السياسية وكانت المشاعر المعادية والحاقدة على الغرب قوية ومتأججة في ذلك الوقت.
كان جمال عبدالناصر في تلك الفترة متحالفاً مع الاتحاد السوفيتي وكانت له حركة عظيمة في التأميم وفي الاتجاه الآخر كان عبدالكريم قاسم مائلاً بعض الشيء اتجاه السوفيت أيضاً فانسحب من حلف بغداد ومن جانب واحد عام 1959 مما جعل المنطقة مفتوحة الذراعين لاستقبال الأسلحة والمساعدات السوفيتية ولذلك شعر الغرب بالخوف والقلق خصوصاً عام 1961 عندما حاول عبدالكريم قاسم احتلال الكويت ومسارعته إلى تأميم جزء من شركة البترول العراقية المملوكة للأجانب ، وهي خطوة تحررية لا يقبلها الأمريكان والإنجليز لأن فيها خروجاً عن الطاعة والهيمنة الأجنبية على ثروات ومقدرات البلاد وكان عبدالكريم قاسم يسير على خطى عبدالناصر ومشاريعه التأميمية التي بدأ في تنفيذها خلال سنواته الأولى في السلطة.
وكان عبدالناصر يأمل في انضمام العراق للجمهورية العربية المتحدة ولكن عبدالكريم قاسم خيب ظنه وكانت الطامة الكبرى بالنسبة لعبدالناصر هي القرار السوري عام 1961 بالانسحاب من الجمهورية العربية المتحدة والتي أنهت آمال عبدالناصر في إنشاء دولة عربية واحدة من المحيط إلى الخليج !
نعود إلى العراق ونقول انه في عام 1959 شارك صدام حسين الشاب في محاولة فاشلة لاغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم، وهو الضابط الذي أنهى حكم الأسرة الهاشمية فى العراق وأطاح بالملكية وأقام النظام الجمهوري عام 1958.
وكانت آلاف علامات الاستفهام والتعجب والسؤال تدور في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات حول علاقة صدام بالمخابرات الأمريكية خلال فترة حكم عبدالكريم قاسم حيث يتهمه الكثيرون بأنه كان عميلاً نشطاً للمخابرات المركزية الأمريكية التي لم تكن تستسيغ الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم في ذلك الوقت وكانت تستغل البعثيين أسوأ استغلال في تحقيق مطالبها في العراق وتردد كثيراً أن علاقته بالمخابرات الأمريكية استمرت حتى بعد ذهاب صدام حسين إلى القاهرة ..
وكان صدام حسين قد فر إلى مصر بعد فشل محاولة الاغتيال التي استهدفت حياة الزعيم عبد الكريم قاسم فعاش هناك لاجئا سياسيا وخلال تلك الفترة التي قضاها في القاهرة كان يقضي معظم وقته في شقته منشغلاً بالقراءة واكتساب العلم والمعرفة أو يجلس على مقهى مجاور وقيل أنه كان انطوائياً انعزالياً لا يكلم سوى القليلين إلى أن حدث انقلاب عسكري في العراق و عاد صدام إلى بغداد….
العــودة من القــاهرة بعد اغتيــال عبدالكريم قاســم
عاد صدام إلى العراق بعد أن تسلم حزب البعث السلطة في فبراير من عام 1963 إثر الانقلاب العسكري الذي أطاح بالزعيم العراقي عبدالكريم قاسم والذي رتبته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وقاد الانقلاب الجنرال العراقي أحمد حسن البكر وهو المعلم الروحي لصدام حسين وحدث الانقلاب العسكري على عبدالكريم قاسم مثلما أرد أعدائه داخل العراق وخارجها واستمرت المواجهة يومين غلى أن استسلم وبعد محاكمة قصيرة أعدم قاسم رميا بالرصاص واستغرقت عملية استسلامه دون شروط وإعدامه ساعة واحدة فقط ولطمأنة العراقيين المتشككين بأن الرئيس قد انتهى ، تم عرض جثة قاسم التي يمزقها الرصاص على التلفزيون العراقي، وأظهر التلفزيون العراقي صوراً بشعة لمقتل عبدالكريم قاسم ليطمئن الشعب والبعثيين أن عبدالكريم قاسم قد ولى إلى غير رجعة !!
تولى بعدها زمام الأمور في العراق الزعيم العراقي عبدالسلام عارف وهو أحد الضباط الذين أطاحوا بالنظام الملكي في 14-7-1958 وهو معروف بميوله القومية والوطنية وعرف بولائه للزعيم المصري جمال عبد الناصر وعرف بمعارضته لسياسة عبد الكريم قاسم المعارضة للسياسات القومية الوحدوية العربية والتي كان من أهدافها إقامة دولة عربية كبرى .. و
عبدالســلام عارف
وصل عارف للسلطة بانقلاب دموي وبدأت فور نجاح الانقلاب سلسلة من الأعمال الثأرية كرد فعل لما جرى أيام قاسم حيث تم تشكيل ما يسمى بالحرس القومي الذي مارس أعمال فوضوية مسلحة ضد الشعب وعلى أثر هذه الأعمال تم إبعاد البعثيين من السلطة في نوفمبر 1963 حيث أدى تدخل الرئيس عارف إلى إنهاء أول تلاعب بعثي في السلطة وعزل الوزراء الـ «12» من الحكومة، واستبدلهم بضباط عسكريين من الموالين للرئيس وطرد البكر من منصبه كرئيس للوزراء، وأصبح العراق يحكم من قبل حكومة عسكرية .. وزج عارف بعدد كبير من الضباط والبعثيين في السجون وكان منهم صدام حسين وخاله خير الله طلفاح وانتهت الفترة الثانية لسجن صدام يوم 23 يوليو 1966 عندما تمكن مع اثنين من رفاقه من الهرب وكان من ضمن رفاقة الشيخلي وتعددت الروايات في هرب صدام فمنها أنه أقنع حراسه بتناول الغداء أثناء إعادته من المحكمة إلى السجن بعد أن كون علاقة صداقة معهم والثانية أنه هرب مع الشيخلي بعد الهروب من باب خلفي في السجن ومنها أنه هرب بمساعدة حراس السجن بمساعدة سعدون شاكر بعد أن تظاهر هو والشيخلي بالمرض !!
خلال فترة حكم عبدالسلام عارف حاول الانضمام للمشروع الوحدوي بين العراق وسوريا ومصر الا أن أحلامه لم تستمر طويلاً وقتل عبدالسلام عارف في حادث طائرة مروحية عام 1966 والكثير من الروايات تؤكد أن الحادث مدبر من قبل البعثيين ..!
وبعد عبدالسلام عارف تولى شقيقه عبدالرحمن عارف مقاليد الحكم في العراق وهو أحد الضباط الذين شاركوا في انقلاب تموز1958 وتسلم السلطة بعد وفاة أخيه عبد السلام محمد عارف وكان قليل الخبرة في الشؤون السياسية ولم تكن خلال فترة حكمه أي سياسة مميزة أو واضحة وتم إقصاؤه من الحكم على يد البعثيين إثر انقلاب عسكري في 17-7-1968 شارك به مجموعة من الضباط العراقيين إلى القصر الرئاسي وأجبروا الرئيس عبدالرحمن عارف ( الضعيف ) على التنحي عن الحكم مقابل ضمان سلامته فوافق وكان مطلبه الوحيد أن يضمن الانقلابيون سلامة ابنه الذي كان ضابطا في الجيش !
تم إبعاد الرئيس عبدالرحمن عارف إلى اسطنبول وبقى منفيا هناك حتى عاد لبغداد في أوائل الثمانينات بعد أن أذن له صدام بالعودة ..
حـــزب البعــث يستولي على السلطــة
أعلن راديو بغداد صباح 17 تموز 1968م سقوط حكم عبد الرحمن عارف ونجاح الانقلاب العسكري لحزب البعث وتم الاتفاق بين العقيد عبد الرزاق النايف الذي كان رئيساً للاستخبارات العسكرية، والعقيد عبد الرحمن الداود الذي كان قائداً للحرس الجمهوري قبيل الانقلاب أن يتولى احمد حسن البكر رئاسة الجمهورية فيما يشغل النايف رئاسة الوزراء وعلى هذا كان لهما ما أرادا ونجحت خطة الانقلاب وتشكل بعدها مجلس قيادة الثورة والتي نفذت الانقلاب من سبعة أعضاء بينهم ثلاثة بعثيين هم :
1. اللواء احمد حسن البكر.
2. اللواء حردان التكريتي.
3. الفريق صالح مهدي عماش.
بالإضافة إلى أربعة آخرين هم :
4. العقيد عبد الرزاق النايف
5. العقيد عبد الرحمن الداود
6. العقيد حمّاد شهاب
7. العقيد سعدون غيدان
وضمت الوزارة العراقية 12 بعثياً من أصل خمسة وعشرين وزيراً عراقياً ولم يعطى البعثيون سوى وزارة الداخلية وبعض الوزارات الشكلية من ضمن الحقيبة الوزارية وطموحات البعثتين في ذلك الوقت كانت كبيرة وعظيمة وهي السيطرة الكاملة المطلقة على السلطة في العراق ولذلك دبر البعثيون مؤامرة سرية للتخلص من عبد الرزاق النايف وعبد الرحمن الداود بعد 13 يوماً فقط من الانقلاب وتم إبعادهما خارج العراق وأعقب ذلك تمت حملة اعتقالات لمخالفي ومناهضي حزب البعث ومن يعادي أو يخالف الأفكار والسياسات البعثية فتم تشكيل وزارة جديدة برئاسة أحمد حسن البكر إضافة إلى توليه منصب رئاسة الجمهورية وبذلك أحكم حزب البعث سيطرته التامة على الحكم في الجمهورية العراقية ..
أصبح اللواء أحمد حسن البكر، وهو من تكريت أيضا ومن أقارب صدام حسين، رئيسا للجمهورية وكان عمر صدام آنذاك 31 عاما ( لكنه كان لا يزال في القاهرة ) ولذلك سرعان ما عاد صدام وبصحبته عبدالكريم الشيخلي وبعض البعثيين المنفيين إلى بغداد بعد تنصيب النظام الجديد واستقبلوا في مطار بغداد من قبل بعثيين وأفراد العائلة والأصدقاء ..
أحمد حسن البكــر
كانت الكثير من المناصب المهمة في الحكومة الجديدة التي شكلها البكر من نصيب التكريتيين حيث تم تعيين حردان التكريتي وزيرا للدفاع وعبد الكريم الشيخلي ( توأم صدام وصاحبه ) والذي شارك معه في المحاولة الفاشلة لاغتيال قاسم سنة 1959 أصبح وزيرا للخارجية، وحتى خير الله خال صدام الذي لم يكن بعثيا عين رئيسا لبلدية بغداد، والذي كان في كل مناسبة يعدد للبكر مزايا ابن شقيقته، ويقول : ( صدام هو ابنك ) اعتمد عليه، أنت بحاجة إلى العائلة لحمايتك وليس جيشا أو حزبا، لأن الجيوش والأحزاب تغير اتجاهاتها في هذا البلد !
وتزوج صدام حسين من ابنة خاله ( خير الله طلفاح ) الذي كان صديقاً للرئيس البكر الذي كافأه على مساعدته للبعثيين بتعيينه مدير ا عاما في وزارة التعليم وبذلك ازداد تقرب صدام من البكر لأن المثل يقول ( صديق صديقي هو أيضاً صديقي )..
تقرب صدام من البكر كثيراً وكان البكر سياسي بارع ولكنه كان من أهل ( الورقة والقلم ) بينما استغل البكر صدام ليكون رجل المهمات الصعبة الذي يحقق المطاليب على أرض الواقع واستمرت ملازمة صدام للرئيس البكر حتى عينه نائباً للرئيس وازدادت ثقة البكر به وكونه من أقربائه ومن نفس بلدته ( تكريت ) كان يعتقد بان صدام سيظل وفياً ومخلصاً لله وللأبد فأعطاه صلاحيات كبيرة ومسؤوليات واسعة، وهكذا تمكن صدام من استغلال البكر لتعزيز موقعه في الحزب وفي الدولة .
نائب رئيس الجمهورية العراقية الذي أصبح رئيساً لهــا
عمل البكر وصدام معا وأصبحا القوة المهيمنة على حزب البعث، إلا أن زعامة صدام أخذت في التفوق على زعامة الرئيس البكر وصار نفوذ صدام حسين أقوى وأبلغ من البكر ..
أجرى صدام حسين، بصفته نائبا للرئيس أحمد حسن البكر، إصلاحات واسعة النطاق وأقام أجهزة أمنية صارمة ليحفظ بذلك الأمن في العراق ويحقق للعراق الأمان والاستقرار الذي افتقدته لسنوات طويلة.
وقد أثارت سياسات كل من صدام والبكر قلقا في الغرب ففي عام 1972، وفي أوج ذروة الحرب الباردة، عقد العراق معاهدة تعاون وصداقة لمدة 15 عاماً مع الاتحاد السوفيتي كما أمم شركة النفط الوطنية، التي تأسست في ظل الإدارة البريطانية، والتي كانت تصدر النفط الرخيص إلى الغرب.
وقد استثمرت بعض أموال النفط عقب العـــوائد النفطية الضخمــة التي أعقبت أزمة عام 1973، في الصناعة والتعليم والعناية الصحية، مما رفع المستوى المعيشي في العراق إلى أعلى مستوى في العالم العربي.
وفي عام 1974، ثار الأكراد في الشمال بدعم من شاه إيران الذي تؤيده الإدارة الأمريكية وقد دفع الصراع الحكومة العراقية إلى طاولة المفاوضات مع إيران، إذ وافقت على تقاسم السيطرة على شط العرب ـ الممر المائي الواقع جنوبي العراق وجنوب غربي إيران مقابل ذلك أوقف شاه إيران تقديم الدعم المادي للأكراد في شمال العراق مما مكّن النظام العراقي من إخماد الانتفاضة الكردية.
وقد تعزز تحالف صدام مع البكر بصورة أكبر بعد المصاهرة حيث تزوج أحد أبناء البكر من شقيقة لساجدة ( زوجة صدام ) وتزوجت إحدى بنات البكر من شقيق لساجدة وحتى هذه اللحظة المبكرة من عمر البعث، كان التكريتيون يستثمرون الروابط التقليدية في المصاهرة والقرابة لتأمين قاعدة نفوذهم في بغداد.
وقد تمكن صدام حسين من إحكام قبضته على السلطة واستفاد كثيراً من الأحداث والانقلابات السابقة التي كانت في العراق والتي كان سببها عدم وجود وفاء وموالاة حقيقية للرؤوس الكبيرة الممسكة بنظام الحكم والإدارة في البلاد ولذلك قام بتعيين أقاربه وحلفائه في المناصب الحكومية المهمة القيادية بالإضافة إلى مراكز التجارة والأعمال.
في عام 1978 أصبح الانتماء إلى أي من أحزاب المعارضة جريمة يعاقب عليها القانون العراقي بالإعدام وفي العام التالي أجبر صدام حسين وبطريقة ( إنسانية ) أحمد حسن البكر على الاستقالة حيث كان السبب الرسمي للاستقالة هو ( الأسباب الصحية ) وتولى بعدها صدام حسين رئاسة البلاد.
صدام حسين يصبح رئيساً لجمهورية العراق
وقد أقدم صدام على إعدام العشرات من منافسيه في قيادة الحزب والدولة خلال أيام من وصوله إلى الرئاسة مؤيداً للمثل الذي يقول : أتغدى بهم قبل أن يتعشون بي .. ومتمسكاً بالأقوال والتجارب التي تؤكد أن الشعب العراقي لا ينفع معه سوى الحاكم الشديد القاسي الذي لا يتعامل إلا بحد السيف !!
ولم ينس صدام أن يكافئ كل من وقف بجواره خلال السنوات التي سبقت تولي الحكم ابتداء بالعراقيين التكريتيين من الأهل والأقارب وانتهاء بطباخ مصري كان معه في سنوات نفيه في القاهرة فحين تسلم صدام حسين منصب نائب رئيس الجمهورية ثم رئاسة العراق في عام 1979 طلب من السفارة العراقية في القاهرة البحث عن طباخ مصري كان يعمل في شقته في القاهرة وطالبهم بالبحث عن هذا الطباخ فقد أراد مكافئته و إكرامه لخدماته طوال سنوات إقامته في مصر ..
و يروي بأن السفارة العراقية استنفرت واستنفرت معها وزارة الداخلية المصرية بحثا عن هذا الرجل الذي يطلبه رئيس دولة عربية شقيقة لإكرامه و بعد جهد طويل وصلوا إلى الطباخ الذي لم يكن يعلم بأن صدام حسين تسلم رئاسة الجمهورية في العراق كما أن الرجل لم يكن يعرف حقيقة صدام و دوره السياسي نظرا لما عرف عن صدام من تكتم و سرية بالغة في تحركاته و عندما استقبله السفير العراقي في القاهرة قال : إن صدام حسين يريدك في بغداد؟
فقال الطباخ المصري ببراءة : هو صدام بيه لقــى شغل؟