ولّت أيام الرحمة ودخلت أيام المغفرة في شهر قال عنه الصادق المصدوق
الذي لا ينطق عن الهوى، أنه شهر تُفتح فيه أبواب الجنة وتُغلق أبواب النار
وتُصفد الشياطين. غير أن ما سمعناه ورأيناه في العشرة الأوائل من هذا الضيف
الفضيل يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، بأن هناك شياطين من نوع آخر من بني
جلدتنا لا تُصفد، بل على العكس تماما تطلق العنان لنزواتها وعُدوانيتها،
وتعيث في الأرض فسادا، فتزرع الرعب في البلاد والعباد وتُفشي البلاء
والغلاء.
لقد كان الرعيل الأول من هذه الأمة يترقبون حلول هذا الشهر الذي تُضاعف
فيه الأعمال ستة أشهر كاملة من السنة، ويدعون الله أن يتقبل منهم أعمالهم
فيه في الستة الباقية، فأصبحنا نحن اليوم نستقبله بمخططات أمنية خاصة تعكف
مختلف مصالح الأمن على إعدادها بعناية وحرص شديدين، ومع ذلك لا تجدي في
نهاية المطاف نفعا أمام هيجان قطاع متزايد من الناس، يصومون عن الأكل
والشرب في النهار ولكنهم يستبيحون أعراض الناس وأموالهم في الليل والنهار،
فيُروعون الآمنين، ويبتزون المستهلكين، ويعتدون على المطمئنين.. أهذا هو
المغزى الحقيقي من الصوم.. ألهذه الدرجة أصبح رمضان مصدر خطر حتى تُعد له
مخططات أمنية خاصة؟
ما عشناه هذه الأيام تنفطر له الأكباد وتدمع له العيون، ويستدعي منا
وقفة مستعجلة مع الذات حتى نعرف ما الذي أصابنا حتى صرنا إلى ما صرنا إليه
من انحراف وانزلاق. والغريب في الأمر كله أن هذا الشهر كان إلى وقت قريب
سبب انتصارات الأمة وموعد فتوحاتها، ليتحول اليوم إلى موسم تقتيل وتخويف
وحرب عصابات دون مراعاة لحُرمة رمضان.
إن مجرد إجراء إسقاط بسيط بين الأمس واليوم يكشف حجم الطامة التي آل
إليها مجتمعنا، ففي رمضان حقق المسلمون انتصارهم المبين في غزوة بدر
الكبرى، وفيه فتح الرسول مكة، وفيه تمكن طارق بن زياد من فتح الأندلس سنة
93 هـ، وفيه انتصر المسلمون في موقعة عين جالوت سنة 658 هـ على التتار
الذين كانوا يخربون ويعتدون، وفيه فتح بيبرس أنطاكيا وتسلق المسلمون
أسوارها في الرابع من رمضان سنة 666 هـ وغنموا غنائم كبيرة وفيه وفيه.. أما
اليوم ففيه ترتفع الأسعار وتبلغ مستويات جنونية في مختلف الأسواق، وفيه
تنتشر حرب العصابات باستعمال السيوف والسواطير والكلاب المدربة، وفيه طعن
أب ابنه بساطور في القلب بأحد أحياء وهران، وفيه عمد رب بيت إلى صب البنزين
على جسده وأجساد عائلته وأضرم النار فيهم ببلدية عين الرحمة بغليزان، وفيه
أنهى ضابط شرطة حياته بطلقة رصاصة في الرأس بمعسكر، وفيه تم اغتصاب فتاة
عمرها أربع سنوات في مستغانم، وفيه تم السطو على قفة رمضان المكفولة
للغلابى والمساكين وفيه وفيه.. من المصائب والبلايا التي يندى لها الجبين،
وتطأطأ لها الرؤوس خجلا من الخزي الذي نعيشه حتى في أحب الشهور عند الله.