محمد إسعاف النشاشيبي
هو محمد إسعاف بن عثمان بن سليمان النشاشيبي، وُلد في عام 1885م بالقدس لأبٍ من كبار أثرياء الشام.. فعاش ربيبَ نعمة، في سعة من العيش وبَسطة في الرزق.
وُلد وعاش في القدس، وتعلم في المدرسة البطريركيّة ببيروت، ثم كَتب كثيرا في الصحف والمجلات، ونَظَمَ الشعرَ ثم تركه، وقد وَرِثَ عن أبيه ثروةً عظيمة. والعلامة إسعاف النشاشيبي أحدُ علماء القدس الشريف، نذر حياته للذَّوْدِ عن اللغة العربية التي تمثل جزءًا أساسيا من الشخصية الإسلامية. وعاش مجاهدًا بلسانه وقلمه، عَلَمًا للأدب وواحدًا من رجالات عصره الذين أمدهم الله بموهبة فَذَّةٍ بلَّغتْهم كمالَ القول وجمالَ التعبير، وبقدر ما كان ذلك العَلَمُ ضئيلَ الجسم نحيلَه كان يأخذ بزمام الأمور في المجالس إذا تحدث، ويوجه دفة الحديث إذا أَطلق لسانَه مُتناوِلاً قضيةً من القضايا، في حضور كرام العلماء والأدباء والشعراء، ورجال السياسة والسفراء.
أحوال عصره: عاصر أديبنا النشاشيبي حِقْبَة التراجع العربي والإسلامي، وانْقِضَاض الاستعمار الأوروبي على المشرقِ الإسلاميِّ أواخرَ القرنِ التاسعِ عَشَرَ وأوائل القرن العشرين، ورأى من قومه أقلاما وألسنة مفتونةً تنادي بأخذ حضارة الغرب بحسنِها وخبيثِها، ومَنْ ينادي باستعمال الحروف اللاتينية في الكتابة إمعانًا في الانْسلاخِ من كل ما يمتُّ للهوية بصلة.وقد صبَّ النشاشيبي نيرانَ غضبِه على المتغرِّبين المنسلخين من إسلامهم، الداعِينَ إلى إهْدَارِ العربية ونبذها.
مواقفه: حينما قلَّدَهُ رئيسُ جمهورية لبنان وسامَ الاستحقاق المذهب، قام النشاشيبي فألقى خطبة بليغة، جاء فيها: ".. وإنَّا ـ أممَ اللسانِ الضادِيِّ ـ لَعُرْبٌ، وإن لغتَنا هي العربيةُ، وهي الإرْثُ الذي ورِثْنَاهُ. وإنَّا لَحَقِيقُونَ ـ والآباءُ هُمُ الآباءُ واللغةُ هي تلك اللغةُ ـ بِأَنْ نَقِيَ عربيةَ الجنسِ وعربيةَ اللغةِ، نَقِيَ العَرَبِيَّتَيْنِ مما يَضيرُهُمَا أو يُوهِنُهُمَا..".
أعماله: راح العلامة النشاشيبي يُصدر مؤلَّفاته التي ظهر فيها نُضجٌ كبير وعمقٌ في الرؤية والفهم، داعيًا أمته إلى المجاهدة التي لن تنجح بالإيمان والشجاعة وحدهما، بل لابد معهما من الإحاطة بالعلوم الحديثة، وقد أشار إلى أنَّ انتماءَه للعربية لا يَعني إغفالَه لما تَحْوِيهِ الحضارةُ الأوربيةُ من جوانبَ مهمةٍ يَنْبَغِي استيعابُها.. ولم يدْعُه إيمانُه العظيمُ بحضارة المسلمين إلى نَبْذِ الحضاراتِ الأخرى والنَّأْيِ عن التزوُّدِ منها بما يتفق وروحَ الإسلام، ويُعين على الجهاد. فمن أقوالِه في كتاب "قلب عربي وعقل أوروبي": "تِلْكُمْ مَدَنِيَّةُ الغرب، فالخيرُ كلُّ الخيرِ في أنْ نَعرفَها، والشرُّ كلُّ الشرِّ في أنْ نَجهلَها، وإنّا إذا عَادَيْنَاهَا ـ وهي السائدةُ السَّاطِيَةُ ـ اسْتَعْلَتْنَا، وإنَّا إذا نابذْناها ونَبَذْنا عليها حَقرتْنا، وهي مدنِيّةٌ قد غَمَرَت الكرةَ الأرضيةَ، فليس ثَمَّةَ عاصمٌ وإنْ أَوَيْتَ إلى المِرِّيخِ". وكان النشاشيبي أحد أعضاء المَجْمَعِ العلمي العربي بدمشق، ونُعِتَ بأديب العربية، وقد أثْرى المكتبةَ العربيةَ بعدة مؤلفات كرَّسَهَا لتخدم العربية ولتتناول عظماء العرب بما هم أهلُه من إبراز المحاسن والمنجزات، ومن تلك المؤلفات: ـ "كلمة في اللغة العربية" ـ "قلب عربي وعقل أوروبي" ـ "العربية في المدرسة" ـ "البطل الخالد صلاح الدين".ـ "الشاعر الخالد أحمد شوقي".ـ "العربية وشاعرها الأكبر أحمد شوقي".وكانت مجلة الرسالة تَعقد ندواتٍ أدبيةً ثريةً تدعو إليها خيرةَ رجال الأدب والعلم، ومن هنا توطدت العلاقةُ بين الأستاذ النشاشيبي وبين الأديب الكبير أحمد حسن الزيات، صاحب مجلة الرسالة، الذي أثنى على النشاشيبي بقوله: "لقد وَقَفَ نفسَه وجهدَه على دراسةِ الإسلام الصحيح في مصادره الأولى، وتحصيلِ اللغة العربية وعلومِها وآدابِها من منابعِها الصافية، فكان آيةً من آيات الله في سعة الاطّلاع وتَقَصِّي الأطراف، وتمحيص الحقائق.. لا تُذكر مسألة إلا كان له عنها جواب، ولا تُثار مشكلة إلا أشْرَقَ له فيها رأيٌ، ولا تُروَى حادثةٌ إلا أورد عليها المَثل، ولا يَحضر ندوتَه أديبٌ مطَّلِعٌ إلا جلس فيها جلسة المستفيد، فهو من طراز أبي عبيدةَ (معمر بن المثنى) والمُبَرِّدِ، لذلك كان أكثرُ ما يكتبه تحقيقًا واختيارًا وأماليَّ، وكان خاتمةَ طبقة من الأدباء اللُّغويين المحقِّقين".لقد نَفَذَ النشاشيبي إلى أعماق العربية، وفي سبيلها تجرع كئوس التعب، حتى نَبَشَ جُلَّ كتبِها تحصيلاً وفهمًا واستظهاراً، يتجلى ذلك بأقلِّ متابعةٍ لكتاباته التي حَوَتْ بين جنباتها عِلمًا ونوادرَ وطُرَفًا منتقاةً من مئات الكتب لأرباب البلاغة والبيان من أمثال: "عيون الأخبار" لابن قتيبة، و"شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد"، و"معجم البلدان" و"معجم الأدباء" لياقوت الحموي، و"خاص الخاص"، و"يتيمة الدهر" للثعالبي..
وفاته: كان الرجلُ شغوفًا بالقاهرة، متطلعًا لشاعرِها الأكبرِ صديقِه الحميمِ؛ أحمد شوقي، يَفِدُ إليها كلَّ عامٍ مُتَطَبِّبًا، وربما طَبَعَ بعضًا من كُتُبِهِ. وفي شتاء عام 1948م كان على موعدٍ مع القدر، حيث قَضَى نحبَه بأحد مستشفيات القاهرةِ بعد حياةٍ حافلةٍ بالعطاء زاخرةٍ بالجهاد والكدّ والمصابرة.