عبد الملك بن مروان
هو عبدُ الملك بنُ مروانَ بنِ الحَكَم بنِ أبي العاصِ بنِ أميّة، قيل: هو أول مَنْ سُمي في الإسلام بعبد المـلك. أمُّـهُ عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، وُلد سنة ست وعشرين من الهجرة، ولما بلغ السادسة عشرة ولاه معاويةُ المدينةَ.كان عبدُ الملك فقيهًا واسـعَ الاطّلاع، وكان يُعـدّ أحدَ فقهاء المدينة، من طبقة سعيد بن المسيّب وعروة بن الزبير، وعنه يقول الشَّعْبِيّ: "ما ذاكرْتُ أحدًا إلا وجدتُ لي الفضل عليه إلا عبد الملك، فإني ما ذاكرتُه حديثا إلا زادَني فيه، ولا شِعْرًا إلا زادَني فيه". وقال عنه عبد الله بن عمر: "وَلَدَ الناسُ أبناءً ووَلَدَ مروانُ أبًا". وقال فيه عمرو بن العاص: كنت عند معاوية وعنده عبد الملك، فلما قام أتْبَعَهُ بصرَه، ثم قال: لله دَرُّ هذا الفتى، ما أعظم مروءتَه، إنه لَيَتْرُكُ مخالفةَ الجليس تَوَقِّيًا لسوء المجالسة، ويَدَعُ مماراة اللَّجوج كراهةً لعداوته. لله دَرُّهُ، فما زال معروفا بأنه آخذٌ بأربعٍ تاركٌ لثلاثٍ؛ آخذ بقلوب الرجال إذا حدَّث، وبحسن الاستماع إذا حُدِّث، وبترْكِ الجدال إذا خُولِفَ، وبإظهار البِشْر إذا لَقِي، تارك لخُلّة الظَّنين في دينه، وملاحاة الغَلِق خوفا لشِذَّاته، وللدخول فيما لا يَعنيه، هذا مع حِلم وعلم".وقد أوصى ابنُ عمر الناسَ بسؤاله حين قال له القائل: إنكم ـ معشرَ أشياخ قريش ـ يُوشك أن تنقرضوا، فمن نسأل بعدكم؟ فقال: إن لِمَرْوانَ ابنًا فقيهًا، فاسألوه. وفضلاً عن فقه عبد الملك، فقد كان لَسِنًا بليغًا، أثنى عليه الأصمعي وتوَّجَهُ تاجَ البيان إلى جانب تيجان الفقه.
أحوال عصره: عاش عبد الملك وسلطانُ الأمويين منبسط على الأرض، وإن تعرض للتقلص في بعض الفترات، ويبدو أن حظه من الثقافة والعلم والمروءة والحلم، فضلاً عن إمارتِه المدينةَ وهو ابن ست عشرة سنة ـ جعل الاعتقاد يسود لدى العامة بأنه الخليفة القادم. فها هي أم الدرداء تقول له: ما زلتُ أرى هذا الأمرَ فيك منذ رأيتُك، فقال لها: وكيف ذاك؟ قالت: ما رأيت أحسنَ منك محدِّثا، ولا أعلمَ منك مستمعًا". وقد صَدَقَ ظنُّ الناسِ فيه حيث تولَّى الخلافة في شهر رمضان من سنة 65هـ. أعماله: وَلِيَ عبدُ الملك الخلافة والمسلمون متفرقون متنازعون؛ فعبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ بُويِعَ خليفةً في الحجاز، والخوارج متمرِّدون، فاستطاع أن يردّ البلاد كلَّها إلى الطاعة، وأن يقضي على كل تمرد وعصيان، فوُصف بأنه المؤسسُ الثاني للدولة الأموية. وقد اجتمع الناس عليه بعد مقتل ابن الزبير، سنة ثلاث وسبعين، فكان حازمًا فطنا سائسا لأمور الدنيا، لا يَكِل أمرَ دنياه إلى غيره، وقد شهد له المنصور بذلك عندما ذكر ملوك بني أمية فقال: "عبد الملك أشدهم شكيمةً، وأمْضاهم عزيمةً..".ومن أعمال الخليفة الكبير عبد الملك بن مروان أنه عَرَّبَ الدواوين، فكان ديوانُ الشام يُكتب باليونانية، وديوانُ فارس يُكتب بالفارسيّة، وديوان مصر يكتب بالقبطيّة، فنقلها جميعا إلى اللغة العربية هو وابنه الوليد.وعبد الملك أولُ من سكَّ النقود في الدولة الإسلامية سكًا منتظمًا، وكتب على الدينار (قلْ هو الله أَحَدٌ)، وفي الوجه الآخر (لا إله إلا الله)، وطوَّقه بطوق فضة، وكتب فيه "ضُرب بمدينة كذا" وكتب خارج الطوق "محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق".وعبد الملك أول من كتب في صدور الكتب (قل هو الله أحد) وذكر النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع تاريخ الكتاب. وهو أول من كسا الكعبة بالحرير والديباج.وفُتِحَت في عهده هرقلة، وغزا أرمينيّة، وصُنْهاجة بالمغرب، وبُنيت في أيامه مدينة واسط.
مواقفه: سار عبد الملك بنفسه على رأس الجنود الشامية لمؤازرة عبيد الله بن زياد الذي كان يحارب المختار بن أبي عبيد، وحطَّ عبد الملك رحالَه في الطريق ليلةً، فجاءه خبرُ مقتل قائده وانهزام جنده، ثم جاءه بعد قليل خبر انهزام جيشه الذي أرسله لمحاربة ابن الزبير في المدينة، وتلاه خبر ثالث بدخول جنود ابن الزبير أرض فلسطين، وخبر رابع بمسير إمبراطور الروم مهاجمًا حدود الدولة الإسلامية من جهتهم، وخبر خامس بأن عَبيد دمشق وأوباشَها أطلقوا المسجونين وهاجموا السكان، وخبر سادس أن بعض الأعراب أغاروا على حمص وبعلبك ـ فلم يُرَ عبدُ الملك في ليلةٍ قبلَها أحسن وجها ولا أبسط لسانا وابتسامًا ولا أثبت جَنَانًا من تلك الليلة؛ تجلُّدا وسياسةً.. وواجه الأحداث وانتصر عليها جميعا، وأعاد الأمنَ وقطعَ دابرَ الفتنة.وسأله رجل أن يخلوَ به، فلما خلا به وأراد أن يتكلم قال له عبد الملك: احذرْ في كلامك ثلاثا: إياك أن تمدحني، فإني أعلم بنفسي منك، أو تَكْذِبَنِي (أي: تحدثني كاذبًا)، فإنه لا رأي لكَذوب، أو تسعى إليّ بأحدٍ من الرعية ( تسعى: من السعاية، وهي نقل الكلام إلى ذي السلطان بقصد الإضرار)، فإنهم إلى عدلي وعفوي أقربُ منهم إلى جَوْري وظُلمي، وإن شئت أقَلْتُكَ (أي: أعفيتك من الحديث)، فقال الرجل: أَقِلْنِي، فأقاله.ويُروَى أن الصحابي أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ كتب إلى عبد الملك يشكو الحَجّاج بن يوسف، ويقول في كتابه: "لو أن رجلاً خَدَمَ عيسى ابن مريم أو رآه أو صَحِبَه، تعرفُه النصارى، أو تعرف مكانه ـ لهاجَرَتْ إليه ملوكُهم، ولَنَزَلَ من قلوبهم بالمنزلة العظيمة.. ولو أن رجلا خَدَمَ موسى أو رآه تعرفُه اليهود، لَفَعَلُوا به من الخير والمحبة وغيرِ ذلك ما استطاعوا. وإني خادمُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبُه، ورأيتُه وأكلتُ معه، ودخلت وخرجت وجاهدت معه أعداءه، وإن الحَجَّاج قد أضرَّ بي وفعل وفعل". فكان عبد الملك يقرأ الكتاب وهو يبكي، وبلغ به الغضب ما شاء الله، ثم كتب إلى الحجاج بكتاب غليظ شديد، فجاء الكتاب إلى الحجاج فقرأه فتغير، ثم قال لحامل الكتاب: انطلق بنا إليه نَتَرَضَّاه.وكتب زرّ بن حبيش إلى عبد الملك كتابًا، وفي آخره: ".. ولا يُطْمِعْكَ ـ يا أمير المؤمنين ـ في طول البقاء ما يَظهر لك في صحتك، فأنت أعلمُ بنفسك، واذْكُرْ ما تَكَلَّمَ به الأوّلون: إذا الرجال وُلدت أولادها وبَليت من كِبَرٍ أجسادهاوجعلت أسقامها تعتادها تلك زروعٌ قد دنا حصادُهافلما قرأه عبد الملك بكى حتى بَلَّ طرَفَ ثوبِه، ثم قال: صَدَقَ زِرّ، ولو كتب إلينا بغير هذا كان أرفقَ.وعبد الملك بن مروان من أوثق خلفاء المسلمين علاقة بالقدس وبالحرم القدسي خاصة؛ فهو الذي أمر ببناء أول مسجد في التاريخ فوق صخرة بيت المقدس، واكتمل بناء مسجد قبة الصخرة في سنة اثنتين وسبعين.ولم يتوقف جُهد الخليفة الأموي الكبير عند ذلك، فقد أمر بإعادة بناء المسجد الأقصى على أبهى صورة، إجلالا وتقديرًا لتلك البقعة الطاهرة المقدسة، ومع أن الخليفة عبد الملك مات سنة ست وثمانين للهجرة إلا أن العمل في بناء المسجد المبارك تَوَاصَلَ حتى نهايتِه في عهـد ابنه الوليد.
وفاته: بعد إحدى وعشرين سنة قضاها عبد الملك على كرسي الخلافة، مَرِضَ وطرح رأسه على فراش الموت، ودخل عليه ابنُه الوليد باكيا يتمثل بقول الشاعر:
كم عائدٍ رجلا وليس يعودُه
إلا ليعلم هل يراه يموت؟!
فصاح به عبد الملك: ما هذا؟ أتحنّ حنين الأَمَةِ؟ إذا أنا متّ فشمِّر وائْتَزِرْ والْبَسْ جلدَ النمر، وضع سيفَك على عاتقك.
وكان عبد الملك يقول: وُلدت في رمضان، وفُطمت في رمضان، وخَتمت القرآن في رمضان، وبلغتُ الحُلُمَ في رمضان، ووُلِّيتُ في رمضان، وأتَتْني الخلافة في رمضان، وأخشى أن أموت في رمضان، فلما دخل شوال وأَمِنَ ماتَ.
وكانت وفاتُه يوم الجمعة في النصف من شوال سنة ست وثمانين من الهجرة، وصلى عليه ابنُه الوليد وليُّ عهدِه من بعده، وكان عمرُه يوم مات ستين سنة، ودفن بباب الجابية الصغير.وقد خلَّف من الأولاد تسعةَ عشرَ، ذكورًا وإناثًا. وكانت مدة خلافته إحدى وعشرين سنة، منها تسع سنين مشاركا لابن الزبير، ثم انفرد بالخلافة وحده.