هو الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، أكبرُ ولدِ عبد الملك، كان مولده سنة خمسين للهجرة. أُمُّه ولاَّدة بنت العباس بن حَزْن بن الحارث بن زُهَير العبسيّ، كان أبواه يُتْرِفَانِهِ، ولذا قال أبوه عبد الملك: أضرَّ بالوليد حُبُّنا له؛ فلم نرسلْه إلى البادية. وكانت البادية مدرسة لمن أراد أن يتعلم العربيةَ الفصحى بعيدا عما انتشر بالمدن الإسلامية من اللحن بسبب اختلاط العجم بالعرب، غير أن أباه لم يتركْه هَمَلاً، بل قال له في حزم: إنه لا يَلِي أمرَ العرب إلا مَنْ يُحسن كلامَهم. لذا جمع الوليدُ جماعة من أهل النحو وظل يجالسهم في بيتٍ ستة أشهر، وقيل: سنة، ثم إنه لم يبلغ مرادَه، فقال عبد الملك: أَجْهَد وأَعْذر.كان الوليد طويلاً أسمرَ، أفْطَسَ الأنفِ. وقد رأى الصحابيَّ سهلَ بنَ سعد، وسَمِعَ من أنس بن مالك، وسعيد بن المسيِّب، وحَكَى عن الزُّهْرِيّ وغيره.
أحوال عصره: كان مروان بن الحكم قد بايع لابنيْه؛ عبد الملك، ثم عبد العزيز، فتولى عبد الملك الخلافة، وفي حياته توفي أخوه عبد العزيز، فعهد بالخلافة لابنيْه: الوليد، ثم سليمان.ولما مات عبد الملك جَدَّدَ الناسُ بيعتَهم للوليد في شوال سنة ست وثمانين للهجرة، فبدأ بتعيين عُماله في البلاد التابعة للخلافة الإسلامية بانتقاء شديد، فولَّى عمرَ بنَ عبد العزيز أميرًا على مكة والمدينة. وفي عهد الوليد كانت الفتن قد هدأت بشكل كبير فتفرغت الخلافة للفتوح، وانطلقت جيوش المسلمين إلى الهند والسند وشمال إفريقيا والأندلس، وأقبلت على عاصمة الخلافة كنوز الدنيا من الشرق والغرب.ولم تَنْقَضِ مدةُ خلافة الوليد حتى اتسعت ممالك الإسلام في دولته اتساعا لم يُعْهَد له مثيل، وكانت الدولة في عهده غاية في الثروة، وكان في بيت ماله ما يسد النفقات ويكفي ذوي الحاجات ست عشرة سنة.
أعماله: وَالَى الوليدُ بن عبد الملك الفتوحَ؛ وسَيَّر قتيبةَ بن مسلم الباهليّ أحدَ أكابرِ قوادِه ففتح خوَارزْمَ وسمرْقَنْدَ وسردانية.وفي سنة ثمان وثمانين جهز أخاه مَسْلمة والعباسَ ابنه، فغزوا الروم وغلبوهم، وفتحوا بلادًا كثيرة من مملكتها.وتوالت الفتوح، ففُتحت جزيرتا منورقة وميورقة من جزر البحر المتوسط شرقيّ الأندلس، ثم فُتحت نَسَف ومدائن أخرى وحصونٌ من أذربيجان، ثم فَتح الحَجّاجُ بُخارَى، ووصل محمد بن القاسم إلى أرض الهند، ودخل قتيبة قَشْغَر؛ أولَ مدن الصين، وفُتحت الأندلس على يد طارق بن زياد وموسى بن نصير، ثم فُتحت أربيل والكرخ والبيضاء وخوارزم، ثم كابل وفرغانة والشاش، ثم فُتحت مدينة طوس في سنة 95هـ.كما شرع الوليد في بناء جامع دمشق، وجمع فيه مائة ألف ماهر من الصُّنّاع، وحمل إليه أربعين حِمْلا من الفسيفساء هدية من ملك الروم.كما كتب الوليد للجهات بتوسيع المساجد وبنائها، وإدخال حُجَرِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المسجد النبوي، وتوسعته بمائتي ذراع، وهكذا أعاد تجديد المسجد الحرام، ومساجد الأمصار، وقد عُرف الوليد بولَعِهِ الشديد بالعمارة، وكان الناس يلتقون في عهده ـ والناس على دين ملوكهم ـ فيسأل بعضُهم بعضًا عن البناء والعمران، وليس أدلَّ على هذا من مسجد دمشق الذي استغرق البناء فيه عشر سنوات. ومن مظاهر اهتمامه بالعمران أنه أنشأ الطرق ومهّدها، خاصة الطرق المؤدية إلى الحجاز، كما حفر الآبار على طول هذه الطرق، ووظّف من يُعْنَى بهذه الآبار ويُمِدُّ الناسَ بمائها.وهو أول من وضع المنار في الطرقات، وأول من وضع علامة الأميال بين المدينة والشام؛ ليعلم المسافر القدر الذي قطعه من سفره. ومن غُرَرِ أعماله التي فاق بها مَنْ جاء قبله أنه تَعَهَّدَ الأيتامَ وكَفَلَهم ورتّب لهم المؤدِّبين، كما رتب للزَّمْنَى مَنْ يخدمهم، وللمكفوفين مَنْ يقودهم، ورتب لهؤلاء جميعا الأرزاق المنتظمة، كما وضع المجذومين في بيت يرعاهم طبيا، وأعطى كلَّ مُقعَدٍ خادمًا يهتم بأمره، وأجرى لهم الأرزاق الوافية.وتناهى في الاعتناء بالصحة حتى كان من عوائده سؤالُ الأطباء عن هواء البلدان وأيِّه أنفعُ للأمراض، فلما سمع منهم أن هواء دمشق ينفع المجذومين أسس هناك ملجأ لهم لا تزال آثارُه باقية خارج المدينة إلى الآن. ومع كثرة فتوح الوليد وإصلاحاته ما كان يزداد إلا ورعًا وتقوى، فما اعْتَراه عُجْبٌ ولا امتنان على أحد، وكان نقش خاتمه: "يا وليدُ، إنك ميت". وكان ـ مع شغله ـ يختم القرآن كل ثلاث ليال، وقيل: كل سبع.
وفاته: دخلت سنة ست وتسعين التي أراد اللهُ أن يزول فيها ظلُّ هذا الخليفة عن الدولة، فقُبض ـ رحمه الله ـ بدَيْر مُرَّان يوم السبت نصفَ جمادى الآخرة من هذه السنة. ودفن بدمشق، وتولى دفنَه والصلاةَ عليه عمرُ بن عبد العزيز، وكانت مدة خلافته تسع سنين وثمانية أشهر، وترك من الأبناء تسعة عشر ذكرًا.