نور الدين محمود
هو أبو القاسم محمود ابن الملك الأتابك قسيم الدولة عماد الدين أبي سعيد زَنْكي، الملقبِ بالشهيد، ابن الملك آقسنقر الأتابك، الملقب بقسيم الدولة التركيّ السُّلْجُوقيّ، لُقب صاحب الترجمة بالملك العادل نور الدين.وكان مولده يوم الأحد سابع عشر شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة من الهجرة (511هـ) الموافق 1115م، بحلب، لأبٍ مَلِكٍ مهيب شجاع حازم من أشدِّ الناس غَيْرةً على حُرُمَاتِ الرعيّة، وأجودِ الملوك معاملةً، وأرفقِهم بالعامّة، فنشأ نور الدين محمود نشأة كريمة. وقد تعلم القرآن، ودُرِّب على الفروسية وفنون القتال، ولما شبّ تزوج بعِصْمَة الدين خاتون بنت الأتابك مُعِين الدين. وُصف نور الدين بأنه كان شجاعًا ذا همة عالية ودين سابغ، محافظًا على الصلوات، كثير تلاوة القرآن، عفيفًا مقتصدًا، كأنه عمر بن عبد العزيز، وكان أسمر اللون، طويل القامة، حسنَ الصورة، تركيَّ الشكل، ليس له لحية إلا في حَنَكِه، وكان حنفيَّ المذهب، يحب العلماء والفقراء ويكرمهم، سار في خدمة أبيه عماد الدين زَنْكي يؤازره ويناصره في تصدّيه للفرنج الصليبيين، فأُشبعت روحُه بحب الجهاد، وكان أبوه واليًا على إمارة الموصل والبلاد التابعة لها بأمر السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه، وكانت ولايتُه فتحًا للمسلمين بعد هزائم عديدة للسلاجقة أمام الصليبيين. ولم يتوانَ عمادُ الدين زَنْكي في إعداد أبنائه الثلاثة: نور الدين محمود، وسيف الدين غازي، وقطب الدين مَوْدُود لمواصلة الجهاد لدحر الصليبيين، وعقب وفاته عام 541هـ ـ 1146م تولَّى ابنُه نور الدين محمود حُكم سوريا خلفًا لأبيه، وجعل من حلب قاعدة لعملياته، وترك لأخيه سيف الدين غازي حُكمَ الموصل وشرقِ البلاد.
أحوال عصره: كان نفوذُ السلاجقةِ في القرن الخامس الهجري قد اتسع حتى هدد الإمبراطورية البيزنطية وأوروبا، خاصة بعد معركة "مَلازِكرد" فانطلقتْ حرب دينية صليبية؛ "لتخليص" بيت المقدس من يد المسلمين وطرد السلاجقة من آسيا الصغرى، وجاءت وفاة ملكشاه فسببت تمزقا للدولة السُّلْجُوقية القوية، واضطربت الأمور عقب تنازع خلفائه على الشام مما أتاح للصليبيين أن يضربوا ضربتَهم، فاكتسحوا دولة السلاجقة التي دبّ الضعف الشديد في أوصالها حتى أمْسَتْ عاجزة عن الصمود للطوفان الصليبي المندفع، وتقدم الصليبيون نحو عدد من بلاد الشام فاستولوا عليها، وحاصروا أنطاكية حتى استسلمت، ثم حاصروا معرة النعمان حتى سقطت، وجاءت النكبة العظمى بسقوط بيت المقدس في أيديهم عام 492هـ ـ 1099م، ووقف السلاجقة عاجزين، بينما كانت الخلافة العباسية جسمًا بلا روح، ولم يكن حالُ الفاطميين في مصر يمكّنهم من مواجهة الجحافل الصليبية، وظل الأمر على ذلك حتى قام السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه بتولية عماد الدين زَنْكي الشجاع المقدام الحازم إمارةَ الموصل والبلادِ التابعة لها، فاستطاع عمادُ الدين مدَّ سلطانه إلى الجزيرة والشام، فاستولى على "حلب" سنة 522هـ ـ 1128م، وعلى "حَمَاة" سنة 523هـ ـ 1129م، ومن أعظم إنجازاته استردادُ مدينة "الرُّها" من الصليبيين في جمادى الآخرة سنة 539هـ ـ ديسمبر 1144م. ثم خَلَفَهُ أبناؤُه على ما كان تحت يده؛ نورُالدين محمود على سوريا، وسيفُ الدين غازي على الموصل وشرق البلاد، فواصلوا ما بدأه أبوهم ضد الصليبيين.وسار نور الدين في رعيته مقيمًا العدل، متبعًا الشرع، يجلس في المسجد يوم الثلاثاء ليصل إليه كلُّ ذي حاجة من المسلمين وأهـل الذمة، وكان بأسُه على الصليبيين شديدًا، فأوقف طوفانَهم الزاحف، واسترد منهم بعض ما سلبوه من المسلمين، وحافظ على ما فتحه أبوه عماد الدين من البلاد، ووسَّع أرجاء مملكته حتى ضمت الشام ومصر، واتخذَ صلاحَ الدين واليًا على مصر بعدما رأى منه حُسْنَ تدبيرٍ لأمورها، وقد سعى الوُشَاةُ بالسوء بينه وبين صلاح الدين متهمين إياه بالنزوع إلى الاستقلال بمصر، وأفلحت الوشاية في النَّيْل من العلاقة بين الملك وواليه القويّ، وكادت تسوء لولا تدخل أولي الألباب.
أعماله: نشأ نور الدين محمود في كَنَفِ أبيه المجاهد عماد الدين زَنْكي، فأبْلَى معه بلاءً حسنًا في مجاهدة الصليبيين، وخرج من معاركه الكثيرة التي خاضها مع أبيه فارسًا محنكًا، خبيرًا بفنون القتال، حتى قُتل أبوه، فخلفه على حُكم سوريا سنة 541هـ ـ 1146م، وانطلق يؤمّن فتوحات والده في الرُّهَا، فأنزل هزيمة نكراء بحاكمِهَا الصليبي جوسلين، وأسَرَه سنة 546هـ ـ 1151م، وقبيل ذلك حقق فتوحات عظيمة في إمارة أنطاكية، وقَتَلَ أميرَها ريموند سنة 544هـ ـ 1149م.ويرجع إلى نور الدين محمود الفضلُ في استمرار الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين، حتى بلغ الذروة على يد صلاح الدين الأيوبي الذي عمل في خدمة نور الدين، وفتح له مصرَ في حياته مما مكَّنه من ضمها إلى الشام وتطويق الصليبيين، ومن قبل افتتح نورُ الدين دمشق سنة 549هـ، فبَنَى بها المدارس والمساجد والأسواق، ثم فتح حمص، واستنقذ من أيدي الصليبيين معاقلَ كثيرة من الحصون المنيعة التي كانوا قد استحوذوا عليها، منها: مرعش وبهسنا، وأَسَرَ بنفسه في إحدى غزواته مَلِكًا من ملوك الفرنجة، فاستشار الأمراءَ فيه؛ هل يقتله، أو يأخذ فيه فدية؟ فاختلفوا، فاستحسن إطلاقَه مقابل مال كثير يفتديه به، فأَطْلَقَ سراحَ هذا الملك الأسير وأعاده إلى بلاده، فلم يلبث أن مات، فعَجِبَ نورُ الدين وأصحابُه لذلك، وبَنَى بِفِدْيَةِ ذلك الملك "مارستانًا" (مستشفى) لم يُبن في الشام قَبْلَه؛ لعلاج المرضى الفقراء، ومَنْ لا دواء لهم إلا فيه.وظل نور الدين م