المياه في الوطن العربي
يكتسب موضوع المياه أهمية خاصة في الوطن العربي بالنظر لمحدودية المتاح منها كمياه الشرب وطبقاً للمؤشر الذي يفضي الى ان أي بلد يقل فيه متوسط نصيب الفرد فيه من المياه سنوياً عن 1000- 2000 متر مكعب يعتبر بلداً يعاني من ندرة مائية، وبناءً على ذلك فان 13 بلداً عربياً تقع ضمن فئة البلدان ذات الندرة المائية. وهذه الندرة في المياه تتفاقم باستمرار بسبب زيادة معدلات النمو السكاني العالية. ويوضح تقرير البنك الدولي لسنة 1993 ان متوسط نصيب الفرد السنوي من الموارد المائية المتجددة والقابلة للتجدد في الوطـن العربي (مع استبعاد مخزون المياه الكامنة في باطن الأرض) سيصل الى 667 مترا مكعبا في سنة 2025 بعدما كان 3430 مترا مكعبا في سنة 1960، أي بانخفاض بنسبة 80%. أما معدل موارد المياه المتجددة سنوياً في المنطقة العربية فيبلغ حوالي 350 مليار متر مكعب، وتغطي نسبة 35% منها عن طريق تدفقات الأنهار القادمة من خارج المنطقة، إذ يأتي عن طريق نهر النيل 56 مليار متر مكعب، وعن طريق نهر الفرات 25 مليار متر مكعب، وعن طريق نهر دجلة وفروعه 38 مليار متر مكعب. وتحصل الزراعة المروية على نصيب الأسد من موارد المياه في العالم العربي، حيث تستحوذ في المتوسط على 88%، مقابل 6.9% للاستخدام المنزلي، و5.1% للقطاع الصناعي. وقد حدد معهد الموارد العالمية منطقة الشرق الأوسط بالمنطقة التي بلغ فيها عجز المياه درجة الأزمة، وأصبحت قضية سياسية بارزة، خاصة على امتداد أحواض الأنهار الدولية.
وقد غدا موضوع المياه مرشحاً لإشعال الحروب في منطقة الشرق الأوسط وفقاً لتحليل دوائر سياسية عالمية، خاصة ان اغلب الأقطار العربية لا تملك السيطرة الكاملة على منابع مياهها. فأثيوبيا وتركيا وغينيا وإيران والسنغال وكينيا وأوغندا وربما زائير ايضاً هي بلدان تتحكم بحوالي 60% من منابع الموارد المائية للوطن العربي. ويدور الحديث الآن حول ارتباط السلام في الشرق الأوسط بالمياه بعد اغتصاب إسرائيل لمعظم نصيب دول الطوق العربي من المياه. كما ان بعض الدول أخذت تتبنى اقتراحاً خطيراً للغاية يتمثل في محاولات إقناع المجتمع الدولـي بتطبيق اقتراح تسعير المياه، وبالتالي بيع المياه الدولية. ويقع على رأس هذه الدول تركيا وإسرائيل. والأخطر من ذلك تبني بعض المنظمات الدولية (كالبنك الدولي ومنظمة الفاو) لتلك الاقتراحات، متناسين حقيقة الارتباط الوثيق بين الأمن المائي والأمن الغذائي من جهة، والأمن القومي العربي من جهة أخرى.
وفي كلمة الأمين العام للجامعة العربية الدكتور عصمت عبد المجيد في مؤتمر الأمن المائي في القاهرة جاء: «إن قضية المياه في الوطن العربي تكتسب أهمية خاصة نظراً لطبيعة الموقع الاستراتيجي للامة العربية، حيث تقع منابع حوالي 60% من الموارد المائية خارج الأراضي العربية، مما يجعلها خاضعة لسيطرة دول غير عربية، وما يزيد الأمر تعقيداً يكمن فيما يعانيه الوطن العربي من فقر مائي يصل في وقت قريب الى حد الخطر مع تزايد الكثافة السكانية وعمليات التنمية المتواصلة».
وذكر عبد المجيد ثلاثة تحديات على العرب مواجهتها لحل مشكلة المياه وهي:
اولاً: قضية مياه نهري دجلة والفرات وكيفية حل ما هو قائم حالياً بين تركيا وسوريا والعراق من جهة، وبين كل من سوريا والعراق من جهة أخرى.
ثانياً: مطامع إسرائيل التي اتهمها باستخدام المياه كعنصر أساسي في الصراع العربي الإسرائيلي، حيث تشكل المياه أحد أهم عناصر الاستراتيجية الإسرائيلية سياسياً وعسكرياً وذلك لارتباطها بخططها التوسعية والاستيطانية في الأراضي العربية. وتشمل تلك الأطماع في الموارد المائية العربية نهر الأردن وروافده ونهر اليرموك وينابيع المياه في الجولان وانهار الليطاني والحاصباني والوزاني في لبنان. إضافة الى سرقة إسرائيل للمياه الجوفية في الضفة الغربية وقطاع غزة لمصلحة مستوطناتها الاستعمارية.
ثالثاً: كيفية مواجهة مخاطر الشح المتزايد في مصادر المياه العربية والمترافقة مع التزايد السكاني والتي تتطلب مواجهتها بذل الجهود العربية المشتركة سياسياً واقتصادياً وعلمياً، من اجل تحديد الأولويات في توزيع الموارد المائية وترشيد استثمارها، بالإضافة الى تنمية الوعي البيئي لمخاطر التلوث، وتطوير التقنيات المستخدمة والاعتماد على الأساليب التكنولوجية الحديثة في الري ومعالجة التصحر ومشروعات تكرير وتحلية المياه التي سوف تشهد المرحلة المقبلة تزايداً على استخدامها واستثمارها.
ثم جدد الدكتور عبد المجيد الدعوة لعقد «قمة عربية بشأن المياه لدراسة جميع الجوانب المتعلقة بالأمن المائي العربي».
وإذا كان الواقـع المائي صعباً في الوطن العربي حيث لا يتجاوز نصيبه من الإجمالي العالمي للأمطار 1.5% في المتوسط بينما تتعدى مساحته 10% من إجمالي يابسة العالم، فان واقع الحال في المشرق العربي يبدو اكثر تعقيداً، إذ لا يتعدى نصيبه 0.2 % من مجمل المياه المتاحة في العالم العربي، في الوقت الذي ترتفع فيه معدلات الاستهلاك بشكل كبير. فخلال الفترة 1980-1990 تضاعف الطلـب على المياه لأغراض الزراعة في دول مجلس التعاون ثماني مرات، رغبة منها في تحقيق الاكتفاء الذاتي بالنسبة لبعض المواد الغذائية، كما ازداد الاستهلاك المنزلي بمقدار ثلاثة أمثاله، خلال نفس الفترة، بسبب تحسن مستوى المعيشة. وأهمية موضوع المياه محلياً، بل وإقليمياً، تكمن في الواقع في صـلاته المباشرة بجهود التنمية بوجه عام، وبصلاته الوثيقة بالقطاع الزراعي بوجه خاص، والواقع ان سياسات الدعم الحكومي للقطاع الزراعي تعتبر أحد ابرز الأسباب المؤدية الى مشاكل استنزاف الميـاه الجوفية. إلا ان تلك الصلات لا تتوقف عند ذلك الحد، بل تمتد لتطال موضوعات عدة، ربما انطوى كل منها على تحد، كالبيئة والموارد الطبيعية وحتى عجز الميزانية العامة للدولة.
وفي دراسة عن مستقبل المياه في المنطقة العربية توقعت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم والمركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة، ظهور عجز مائي في المنطقة يقدر بحوالي 261 بليون م3 عام 2030، فقد قدرت الدراسة الأمطار التي هطلت في الدول العربية بنحو 2238بليون م3 يهطل منها 1488بليون م3 بمعدل 300 ملم على مناطق تشكل 20% من مساحة الوطن العربي ونحو 406 بلايين م3 تهطل على مناطق اكثر جفافاً يتراوح معدل أمطارها بين 100 و 300 ملم بينما لا يتجاوز هذا المعدل 100 ملم في المناطق الأخرى. وأوضحت الدراسة التي نـاقشها وزراء الزراعة والمياه العرب ان الوطن العربي يملك مخزوناً ضخماً من الموارد المائية غير المتجددة يعتبر احتياطاً استراتيجياً ويستثمر منه حالياً حوالي 5%. وتقدر كمية المياه المعالجة والمحلاة بنحو 10.9 بلايين م3 سنوياً منها 4.5 بلايين م3 مياه محلاة و6.4 بلايين م3 مياه صرف صحي وزراعي وصناعي. أما بالنسبة للحاجات المائية المستقبلية فهي مرتبطة بمعدلات الزيادة السكانية في العالم العربي التي أصبحت بين الأعلى في العالم. فمن المتوقع ان تصل الى 735 مليون نسمة عام 2030 مقابل 221 مليون نسمة عام 1991. ولتضييق الفجوة القائمة بين الموارد المائية المتاحة والحاجات المستقبلية، اقترحت الدراسة محورين للحل: يتمثل الأول في تنمية مصادر مائية جديدة واستثمار مصادر مائية جوفية ممثلة في أحواض دول عدة. أما الحل الثاني فيتمثل في ترشيد استخدامات المياه وحمايتها .
ومن ذلك يتضح ان على الدول العربية ان تعطي موضوع تنمية الموارد المائية والمحافظة عليها الأولوية القصوى عند وضـع استراتيجيتها الأمنيـة، ويجب ان يكون موضوع «الأمن المائي» على راس قائمة الأولويات، وذلك بسبب قلة الموارد المائية التقليدية، مما يستدعي العمل الجاد على المحافظة على هذه الموارد ومحاولة تنميتـها وكذلك إيجاد موارد مائية جديدة. وخصوصاً ان معظم منابع الأنهار بيد دول غير عربية مما لا يعطيـها صفة المورد الآمن، كما ان المياه الجوفية، في اغلب الدول العربية، محدودة ومعظمها غيـر متجدد (ناضب) لعدم توفر موارد طبيعية متجددة كالأمطار تقوم على تغذية هذه المكامن وتزيد من مواردها. لذلك يجب أن ينصب اهتمام القائمين على إدارة الموارد المائية على المحافظة على موارد المياه الجوفية وزيادة كمياتها، بل وتحسين نوعيتها واعتبارها مخزونا استراتيجيا في مكامن آمنة. وقد لخص الدكتور سامر مخيمر البدائل المطروحة لتجاوز الفجوة المائية الحالية ما بين العرض والطلب (الموارد المائية المتاحة والاحتياجات الفعلية للاستهلاك) في المنطقة العربية فيما يلي:
1- ترشيد استهلاك الموارد المائية المتاحة.
2- تنمية الموارد المائية المتاحة.
3- إضافة موارد مائية جديدة.
فبالنسبة الى ترشيد الاستهلاك هناك عدة أساليب يمكن إتباعها مثل: رفع كفاءة وصيانة وتطوير شبكات نقل وتوزيع المياه، تطوير نظم الري، رفع كفاءة الري الحقلي، تغيير التركيب المحصولي وكذلك استنباط سلالات وأصناف جديدة من المحاصيل تستهلك كميات اقل من المياه، وتتحمل درجات أعلى من الملوحة.
أما بالنسبة الى تنمية الموارد المائية المتاحة ، فهناك عدة جوانب يجب الاهتمام بها مثل: مشروعات السدود والخزانات وتقليل المفقود من المياه عن طريق البخر من أسطح الخزانات ومجاري المياه وكذلك التسريب من شبكات نقل المياه.
أما بخصوص إضافة موارد مائية جديدة، وهو الموضوع الأهم من وجهة نظرنا وخصوصاً لدول الخليج العربية، فيمكن تحقيقه من خلال محورين:
اولاً: إضافة موارد مائية تقليديـة مثل المياه السطحية والمياه الجوفية، حيث ان هناك أفكارا طموحة في هذا المجال مثل جر جبال جليديـة من المناطق القطبية وإذابتها وتخزينها، ونقل الفائض المائي من بلد الى آخر عن طريق مد خطوط أنابيب ضخمة وكذلك إجراء دراسات واستكشافات لفترات طويلة لإيجاد خزانات مياه جوفية جديـدة. ولكن جميع هذه الأفكار هي في الواقع أفكار مكلفة للغاية وتحتاج الى وقت طويل لتطبيقها عملياً بالإضافة الى أنها لا يمكن الاعتماد عليها كمصدر أمن للمياه.
ثانياً: إضافة موارد مائية غير تقليدية (اصطناعية) ويمكن تحقيق ذلك عن طريق استغلال موردين مهمين هما مياه الصرف الصحي ومياه التحلية. ولعل هذا الموضوع هو من أهم المواضيع التي يجب على الدول الفقيرة بالموارد المائية الطبيعية، ومنها دول الخليج العربية، الاهتمام بها والتركيز عليها كمصدر أساسي ومتجدد (غير ناضب) للميـاه. فمياه الصرف، سواءً الصناعي أو الزراعي او الصحي، يمكن معالجتها بتقنيات حديثة وإعادة استخدامها في ري الأراضي الزراعية وفي الصناعة وحتى للاستخـدام الآدمي (تحت شروط وضوابط معينة) بدلاً من تصريفها دون معالجة الى المسطحات المائية مما يتسبب في مشاكل بيئية خطيرة تؤدي إلى هدر مصدر مهم من مصادر الثروة المائية. ولعل تزايد اهتمام الدول الغنية بالموارد المائية، مثل الدول الأوروبية وأميركا، والمتمثل في المبـالغ الطائلة التي تنفق سنويـاً بهدف تحسين تقنيات معالجة هذه المياه وإعادة استخدامها لهو الدليل القاطع على أهمية هذا المورد وعلى ضرورة اهتمام الدول الفقيرة به والعمل على توفيره كمصدر إضافي للموارد المائية.
أما بالنسبة لمياه التحلية، فمما لا شك فيه ان معظم الدول العربية هي دول ساحلية مما يعطيها ميزة وجود مصدر للمياه بكميات لا حدود لها يمكن تحليتها والاعتماد عليها كمورد إضافي، بل في بعض الدول مثل الدول الخليجية كمصـدر أساسي للمياه. فعلى سبيل المثال تمثل مياه البحر المحلاة اكثر من 75% من المياه المستخدمة في دول الخليج العربية بينما ترتفع النسبة إلى 95% في دولة الكويت.
وتمتاز موارد مياه التحلية عن الموارد الطبيعية بالتالي:
* اصبح بالإمكان اعتبارها مورداً مائياً يعتمد عليه لتوفير المياه العذبة كما هو متبع الآن في منطقة الخليج.
* يمكن إقامتها في مواقع قريبة من مواقع الاستهلاك مما يؤدي الى توفير إنشاء خطوط نقل مكلفة جداً.
* يمكن اعتبارها ضماناً أكيدا لتلافي نقص الموارد المائية، بغض النظر عن واقع الدورة الهيدرولوجية وتقلباتها.
* تحتاج الى تكلفة رأسماليـة منخفضة لكل وحدة سعة مقارنة بتكلفة إقامة وتشغيل منشآت تقليدية مثل السدود، ولكنها تحتاج الى تكلفة تشغيلية أعلى بكثير.
* تتألف من معدات ميكانيكية، ولذلك فمـن المتوقع ان يستمر تطوير كفاءتها واقتصادياتها.
* لها القدرة على معالجة وتحويل مياه البحر والمياه المالحة الأخرى الى مياه ذات نوعية ممتازة صالحة للشرب ، ولذلك فهي تخلو من عوائق سياسية أو اجتماعية أو قانونية كتلك العوائق التي تتعلق باستغلال الموارد الطبيعية المشتركة مثل الأنهار.
* متوفرة بأحجام متنوعـة وتقنيات مختلفة بحيث يمكن استخدام المناسب منها للغرض المطلوب لتلبية احتياجات المياه.
* مناسبة اكثر لعمليات تنظيم تمويل مشاريعها مقارنة بعمليات تمويل المشاريع المائية التقليدية.
* فترة إنشائها اقصر بكثير من فترة إقامة خطوط نقل مياه من مناطق نائية.
لذا فان على القائمين على تخطيط الموارد المائية في كافة أنحاء العالم ان يأخذوا موارد مياه التحلية في اعتبارهم لتؤدي الأغراض التالية:
* مصدر مائي متكامل قائم بذاته ويمكن استخدامه كذلك كمصدر مياه عذبة إضافي لتكملة موارد المياه التقليدية.
* مورد أساسي للاعتماد عليه في حالات الطوارئ خاصة في مواسم الجفاف وعدم توفر مياه كافية.
* مورد بديل لنقل المياه عبر مسافات طويلة.
* تقنية يعتمد عليها لتحسين ودعم نوعية المياه المتوفرة.
* مصدر مائي لنوعية مياه مناسبة جداً لتطبيقات صناعية وغيرها من الأغراض.
* تقنية مناسبة لمعالجة وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي وإزالة جميع الملوثات ومسببات الأمراض.
ومن لغط القول الحديث بان تحلية المياه مكلفة أو مكلفة جداً دون الأخذ بالاعتبار الأوضاع السياسية والجغرافية واقتصاديات موارد المياه البديلة. فعلى سبيل المثال فان العديد من الدول تفضل ان يتوفر لديها موارد مائية ذاتية تفي بكافة احتياجاتها مهما كان الثمن. وقد طرحت أفكار عديدة لنقل المياه بواسطة الأنابيب وعبر أقطار متعددة، ولكن لم يطبق أي منها لاعتبارات اقتصادية أو سياسية- جغرافيـة. وقد أظهرت دراسة أعدت من قبل مفوضية الطاقة النووية في فيينا عام 1992 بان تكلفة نقل المياه بواسطة ناقلات النفط من أوروبا الى تونس تزيد على دولار أميركي واحد لكل متر مكعب، كما أظهرت نفس الدراسة بان تكلفة نقل المياه بواسطة الأنابيب لمسافة تزيد عن 300 كم أعلى من تكلفة إنتاجها بواسطة طرق التحلية.
وفي المناطق التي تعاني من نقص شديد في المياه العذبة، تعتبر هذه السلعة ثمينة جداً وذات أهمية استراتيجية، وقد اكتسبت صفة السلعة الاستراتيجية لكونها ذات أهمية حيوية وسلعة نادرة، حالها في ذلك حال السلع الاستراتيجية الأخرى التي تتصف بالندرة والحاجة الحيوية لها مثل النفط وبعض المعادن الثمينة. والسلع الاستراتيجية المذكورة تتصف بخواص مشتركة أهمها:
1- الحاجة الى توفيرها وتخزينها.
2- الحاجة الى أعمال بحث وتطوير لتقليل استخدامها والمحافظة عليها ومعالجتها وإعادة استخدامها.
3- البحث عن موارد لبدائلها.
ومن هذا المنطلق، فان على أصحاب القرار ان يأخذوا باعتبارهم مورد تحلية المياه كبديل جديد، وعليهم أن يقوموا بتقييم البدائل بما فيها التحلية، وان يضعوا توصياتهم بناء على تحليل فني واقتصادي وجغرافي وسياسي يجعل من السهل على صاحب القرار اختيار البديل المناسب للتزود بالمياه العذبة مشمولاً بأقل التكاليف واضمن الوسائل وأفضلها من وجهة نظر سياسية - جغرافية.
شكلت المياه في مسيرة الإنسانية عاملاً مهماً في ظهور الحضارات وتقدمها، لما يشكله الماء من حالة استقطاب للأفراد وللجماعات مهدت لإقامة المجتمع وإرساء أسسه وإيجاد اللبنة الأولى لقيامه من خلال إقامة التجمعات السكانية بالقرب من الموارد المائية الطبيعية، ولم تتوقف حاجة الإنسان للمياه عند حدود الاستخدام الشخصي بما يمثله من حجر الزاوية مع الهواء في بقاء الحياة ولا عند أهمية الاستقطاب والتجمع، بل تعدته لتشمل كل مجالات الحياة في النقل والزراعة والصناعة وتربية الحيوانات وغيرها وبقدر ما تشكله المياه من نقاط التقاء وتواصل بين المجتمعات والحضارات، كانت هناك أيضاً حواجز طبيعية حافظت على بناء الحضارة لمجتمعات عديدة من تأثير العوامل الخارجية المدمرة أو منعت وجمدت مجتمعات أخرى بدائية. الحضارات العظيمة التي قامت في العراق ومصر مثلاً على مر التاريخ الطويل لهذين البلدين، سعى الإنسان فيهما بإرادته القوية إلى توظيف العناصر والظروف الموضوعية، حيث حباهما الخالق بالأساسيات المتمثلة بالأرض والماء والمناخ فانتقلت من حالتها السلبية إلى حالة إيجابية أي إلى حضارة.
ومعروف أن المياه تغطي اكثر من ثلاثة أرباع الكرة الأرضية لكن بالرغم من كل ذلك فان الصالح منها للاستخدام يبقى قليلاً مع تزايد الحاجة إليه ويقدر الحجم الكلي للماء بحوالي 1360 متراً مكعباً، 97% من هذا الحجم موجود في البحار و 2% مجمد في الطبقات الجليدية وبذلك فلم يبق غير 1% موزع على الأنهار والمسطحات المائية الداخلية غير المالحة والتي يحتاجها الإنسان في تلبية حاجاته إلى الشرب والري والى كثير من الصناعات.
وهذا يسوقنا إلى موضوع ارتباط نشوء الحضارات بالموارد المائية وإلى الحديث عن البقعة الجغرافية المسماة (عراق) كمثال لذلك الارتباط والتي تعني في العربية كلمة (الشاطئ) حيث انها كانت تشكل منطقة جذب للعديد من الأقوام الذين سكنوها وشادوا فيها أرقى الحضارات نظراً لما تتمتع به من وفرة في المياه وخصوبة في الأرض يشار إليها بالبنان وادى إلى تسميتها بأرض السواد حيث أشارت الكتابات المسمارية القديمة إلى تلك الجهود الكبيرة التي بذلها العراقيون القدماء في إقامة السدود وكذلك شق القنوات والأنهر وذلك لدرء خطر الفيضانات وزراعة اكبر قدر من المساحات الممكنة من الأرض حتى غدت هذه الأرض من أغنى دول المنطقة زراعياً وبذلك ولد قانون ينظم استخدام المياه في هذه البقعة من العالم حيث يعتبر نهر الفرات الذي يمر في هذه المنطقة من أهم الأنهار في العالم نظراً لأهميته التاريخية حيث نشأت على ضفافه أول حضارة يرجع تاريخها إلى خمسة آلاف سنة قبل الميلاد هي الحضارة السومرية ولكن هناك أقواماً أخرى سكنت على ضفاف الفرات قبل هذا التاريخ حيث ان الأساطير تذكر لنا ان أول موطئ قدم للإنسان في التاريخ كان في هذه البقعة من العالم.
إن نهر الفرات أحد انهر الفردوس الأربعة التي وردت في سفر التكوين حيث انه يحمل مع توأمه نهر دجلة مياه الحياة ويشكلان أصل الحضارات التي ازدهرت في أرض ما بين النهرين منذ الأزمنة السحيقة.
وللدلالة على ارتباط الأنهار، بما تمثله من كونها موارد طبيعية، مع الحضارات ونشوئها نذكر قول الباحث فكتور كوزين: »اعطني خريطة لدولة ما ومعلومات وافية عن تلك الدولة من ناحية موقعها ومناخها ومائها ومظاهرها الطبيعية الأخرى ومواردها وإمكاناتها الطبيعية بعد ذلك سيكون بإمكاني على ضوء كل ذلك ان احدد لك وفقاً لهذه المعلومات أي نوع من الإنسان يمكن ان يعيش في هذه الدولة وأي دور يمكن ان تلعبه هذه الدولة في التاريخ وكذلك الدور الذي يلعبه الإنسان الذي يعيش ضمن هذه الدولة«. ليس هذا الحكم قائماً على مجرد الصدفة بل هو قائم على أساس الضرورة التي تحتمها البيئة ولا ينطبق ذلك على فترة واحدة محددة من تاريخ حياة الدولة بل ينطبق على جميع مراحلها وفتراتها.
لقد ورث السومريون من أسلافهم العبيديين منظومة ري متكاملة وقاموا بتطوير هذه المنظومة لدرء فيضانات نهر الفرات دون تدمير مزروعاتهم وأقاموا أول سد عرفه التاريخ وهو السد الغاطس الذي انشأه (أبو ناتم) أحد ملوك لكش وذلك في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد على الجداول الرئيسية في لكش المسماة (كيرسو) وقد وجد في مقبرة الملكة سميراميس ملكة آشور مخطوطة يعود تاريخها إلى 2200 سنة قبل الميلاد تتحدث على لسانها بقولها: (انني استطعت كبح جماح النهر القومي ليجري وفق رغبتي وسقت ماءه لاخصاب الأراضي التي كانت من قبل بوراً غير مسكونة).
وفي سنة 2400 قبل الميلاد انشأ (انيمتنا) سداً آخراً لدرء فيضان الفرات حيث كان اهتمام البابليين عظيماً بالزراعة بعد ان ورثوا عن أسلافهم حضارة متكاملة كان أساسها الزراعة وقد عانوا كما عانى أقرانهم من طغيان الفرات - حيث ورد ذلك في كتاباتهم - واهتم حمورابي في 1792 قبل الميلاد بشؤون الري واستخدم البابليون منخفض الحبانية وابو دبس لدرء فيضان الفرات واتسم عهد الكلدانيين أيضاً بتطوير منظومات المياه من نهر الفرات وقد استمر سكنة ضفاف الفرات في تطوير الري والاعتناء بالزراعة وما من حضارة ازدهرت في العهد القديم إلا وكانت الزراعة أحد أركانها الأساسية.
عند سقوط الدولة العباسية على يد (هولاكو) في عام 1258 والذي دمر بغداد وخرب السدود وشبكات الري تراجعت الزراعة بشكل كبير ورافق كل ذلك المجاعة والموت والأمراض التي حصدت أعداداً كبيرة من سكان الفرات في حين أسهم تخريب السدود في حدوث الفيضانات التي جلبت الخراب والموت لاهالي بغداد وكان هذا تحديداً في أعوام 1621، 1633، 1656، 1786، 1822، 1831، 1892، 1895 وهناك بعض الدراسات أجريت خلال القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر حول نهر الفرات كان أبرزها رحلة (جيزاني) الأولى ما بين 1830- 1831 في نهر الفرات وكان هدف الرحلة تسيير السفن البخارية عبر نهر الفرات للنقل التجاري وفي عام 1836 اعيدت المحاولة من جديد وتم خلالها التوصل إلى عدم صلاحية نهر الفرات للملاحة وفي عام 1908 استكملت رحلة (جيزاني) من خلال السير وليم كوكس الذي انتدبته الحكومة العثمانية لاجل تطوير مشاريع الري في العراق مثل: مشروع سدة الهندية، مشروع بحيرة الحبانية، مشروع سد الفلوجة، مشروع وادي الثرثار، وهذه المشاريع في مجموعها تقع جنوب مدينة بغداد.
وفقاً لهذا يتبين لنا انه لم تسبق حضارة ضفاف الفرات أية حضارة أخرى في حوض الفرات ولم تستثمر مياه الفرات بقدر استثمارها في صنع الحضارات في العراق ولم تسكن مجموعة بشرية في حوض الفرات في التاريخ القديم والحديث بحجم المجموعات البشرية في العراق.
ان نهر الفرات يقع بين خطي عرض 31-41 درجة شمالاً ويبلغ اكبر امتداد له في العراق مسافة 1200 كم وهكذا فان الفرات مرتبط تاريخياً بأرض العراق.
كان دور الماء ومنذ الأزل بالغ الأهمية في تحديد استقرار التجمعات البشرية وكان أحد عوامل الصراع الذي بدأ مع بداية الخليقة لكنه لم يصل في أحواله إلى ما نحن عليه الآن ومستقبلاً كمصدر للصراعات والمساجلات والحروب فالماء سر الحياة وهو سر التكوين وبداية الخليقة وتاريخياً تذكر لنا جميع الأساطير ان الماء هو الوجود ومنه انبثق كل شيء وما دوّنه البابليون في ملحمة التكوين البابلية (الاينو ما ايليش) مطلع الألف الثاني قبل الميلاد لا يختلف في هذا السياق عما جاء في الأساطير السومرية.
وقد كان البابليون يعتقدون ان للفرات إلهاً وحينما يغضب على رعيته يعاقبهم بالطوفان وكانت هذه الرعية تنذر إليه وتتضرع له لئلا يغضب عليها وقد عثر على رقيم بابلي فيه خطاب موجه إلى نهر الفرات ومما جاء فيه:
(أيها النهر يا خالق كل شيء، حينما حفرتك الآلهة العظام قد أقاموا أشياء طيبة على شطآنك وانعموا عليك بفيض من المياه لا نظير له والنار والغضب والجلال والرهبة، أنت الذي تقضي في قضايا الناس).
أزمــة الميـــاه في المنطقـــة
إن المياه تغطي أكثر من ثلاثة أرباع الكرة الأرضية إلا أن الصالح منها للاستخدام يبقى ضئيلاً مع الحاجة إليه ولأن المياه غير موزعة على حسب الحاجات فقد برزت أزمات ومشاكل عديدة في هذا الجانب وفي معظم أنحاء العالم ومنها الدول العربية.
إن معظم الدول العربية ستعاني - مستقبلاً - من أزمة حادة في المياه وهذه هي الصورة الحقيقية التي تستدعي دعم كفاية الموارد المائية في تلبية متطلبات الموازنة مع عدد السكان الآخذ بالازدياد.
إن الوضع المائي في المنطقة والعالم حرج بسبب حدة الخلافات حول تقسيم المياه، مما أثار قلقاً دولياً حيال هذه المسألة، انعكس وبشكل واضح في عدة مناسبات وفي عدة مؤتمرات عقدت لدراسة هذه المشكلة وامكانية وضع الحلول المناسبة لها، فقد عقد مؤتمر (قمة الأرض) في (ريودوجانيرو) في البرازيل ومؤتمر (برلين) ومؤتمر السكان في »القاهرة« وكذلك مؤتمر (اسطنبول) وغيرها من المؤتمرات التي تكررت فيها تحذيرات منظمة الأمم المتحدة للعالم من نقص المياه والتلوث البيئي في المدن الكبرى على وجه الخصوص.
فقد أشار التقرير الافتتاحي لمؤتمر إسطنبول إلى أن أكثر من مليار ونصف المليار (من البشر) سيواجهون في العام (2025) ظروفاً تهدد حياتهم وصحتهم بالخطر إذا لم يتم إتخاذ تدابير جذرية لحل المشكلات المتفاقمة في هذا المجال وانعكاسات ذلك على زيادة الفقر والتشرد والبطالة وانهيار القيم الاجتماعية لمجاميعهم الكبيرة.
لقد قدر التقرير عدد الوفيات الناتجة من تناول مياه الشرب الملوثة في كافة مدن العالم الثالث بعشرة ملايين حالة وفاة سنوياً ولا تقتصر شحة المياه على مدن المنطقة بل تشمل مدناً أوروبية عديدة حيث تقدر إحصائيات الأمم المتحدة عدد الذين لا يحصلون على مياه الشرب الصحية بأكثر من مليار إنسان.
إن سبب هجرة اكثر من 25 مليون إنسان سنوياً هو تدهور ظروف الحياة وانهيار التوازن البيئي في أماكن سكناهم حتى صار هؤلاء يسمون بـ(لاجئي البيئة) نظراً لارتباط هجرتهم بعوامل التصحر والجفاف والتلوث وزيادة مشاكل البطالة والفقر.
ان علماء المناخ والمتخصصين يقرعون ناقوس الخطر من ارتفاع حرارة الأرض حيث يعتقد ان هناك علاقة مباشرة له بحالات الجفاف في المناطق التي لم تشهد حالات جفاف من قبل كالشمال الأوروبي.
كما إن الأمم المتحدة خصصت يوماً في السنة هو يوم 22 آذار أطلقت عليه اسم اليوم العالمي للمياه بهدف جلب انتباه العالم إلى المخاطر الناجمة عن إهمال قضية المياه أو العبث بها. ولقد تم انشاء المجلس العالمي للمياه كأكبر منظمة غير حكومية تعنى بدراسة الشؤون المائية بما فيها شحتها والمحافظة على نوعيتها وإيجاد وتطوير أسس وأطر موحدة عالمياً لمعالجة المشكلة المائية برمتها.
إن المشكلة كبيرة جداً وتستدعي الاهتمام حيث يعاني 40% من سكان الأرض موزعين في 89 بلداً من درجات متفاوتة من شحه المياه وللتغلب على هذه المشكلة نشر البنك الدولي لشؤون البيئة تقريراً مفاده: إن المجتمع الدولي قد رصد مبلغاً مقداره (600) مليار دولار وهو رقم خيالي قياساً مع إمكانيات الدول الفقيرة لتأمين الحصول على المياه. والتي تعد اكثر قرباً من مواطن أزمة المياه وتلوثها.
ويبرز التقرير نفسه أن الشرق الأوسط والشمال الافريقي هما اكثر مناطق العالم تعرضاً لنقص المياه البالغ 40% للشخص الواحد وسترتفع النسبة إلى حوالي 80% في العام (2025) حيث ستبلغ حاجة الفرد (6670) متراً مكعباً في السنة بعد ان كانت (3430) متراً مكعباً في 1960.
ان الخصائص الديموغرافية والسياسية هي التي تجعل منطقتي الشرق الأوسط والشمال الافريقي محط اهتمام الدراسات حول مشكلة المياه فسكان المنطقة يشكلون 5% من مجمل سكان الأرض في حين تمثل المياه المتجددة المتاحة للاستعمال 1% فقط من مجموع مياه الأرض العذبة وتقدر حصة الفرد الواحد من المياه بحوالي 1250 متراً مكعباً في السنة علماً ان التوزيع السكاني بين بلدان المنطقة هذه لا يتناسب مع توزيع المياه في حين ترتفع نسبة النمو السكاني إلى 3% في السنة الواحدة.
ان هذا الواقع يسبب وبشكل واضح زيادة في المنافسة للحصول على الكميات المطلوبة من المياه لتحقيق مستوى حياة صحية معقولة أما في وقتنا الحالي فيقدر البنك الدولي عدد السكان الذين لا يحصلون على مياه شرب صحية في المنطقة بـ (45) مليون وعدد السكان المحرومين من أنظمة الصرف الصحي بـ(8) ملايين نسمة ويتوقع أن ترتفع هذه الأرقام بسرعة تزامناً مع سرعة التزايد السكاني وتلكؤ التنمية الاقتصادية والاجتماعية في العديد من البلدان.
إن تلكؤ التنمية الاقتصادية والاجتماعية يؤدي بالضرورة إلى إفقار مئات عديدة من السكان.بل إن جميع من يعملون في مجالات البيئة وبمختلف مشاريعهم يركزون على شعار أساسي هو: (فكر كونياً وانشط محلياً) ومعلوم ان هذا ليس شعاراً اعتباطياً أو عشوائياً بل انه شعار يضع مسؤولية حماية البيئة على عاتق الإنسان كفرد وكمجتمع، فإضافة إلى المسؤوليات التي تتحملها الدول يلعب الأفراد والمجاميع المحلية المختلفة دوراً أساسياً في العمل على منع التلوث والحفاظ على جمال البيئة ونقائها بما ينسجم وحجم الدور المطلوب في هذا الشأن ولما فيه خير الإنسان الذي حباه الله جل جلاله بهذه النعمة والكثير من النعم.
لابد لنا من إضاءة جانب المشكلة في منطقتنا ولعل هناك من يفكر وهو محق بان المنطقة تتميز بانتهاكات مفجعة لحقوق الإنسان، والحروب تجعل التفكير بالبيئة شيئاً من الترف، ان هذه المنطوقة صحيحة ولكن لا بد من معرفة ان العمل في سبيل البيئة النقية لا ينفصل عن النضال من اجل الحقوق الإنسانية للإنسان والعيش بكرامة وحرية.
ان الإنسان المعاصر لا يستطيع ولا يمكن له مهما ضاق مجال اختصاصه ان يعيش منعزلاً عن مصير الآخرين، فمثلاً نرى أن تعاون الدول المتشاطئة لابد منه لتجنب الكوارث التي من الممكن ان تحل بشعوبها نتيجة الخلافات ومن ثم الأحتراب على تقسيمات الحصص المائية لكل من تلك الدول علماً ان العالم في بدايات القرن المقبل سيتعرض الى انفجار سكاني وبطبيعة الحال سيؤدي هذا الانفجار السكاني إلى زيادة في استهلاك كل شيء وفي مقدمة ذلك المياه الضرورية للزراعة والاستعمال البشري.
ان العوامل المؤثرة والمحركة للأزمة حول المصادر المائية بين الدول لم تتمحور حول جانب واحد كالجانب الاقتصادي أو السياسي بل تتداخل الجوانب مع بعضها بحيث ان الفصل بين محركات الأزمة يسبب أزمة لوحده وهذا عائد إلى تشابك المصالح الأقليمية والدولية وبروز مظاهر النظام العالمي الجديد.
إن ضمان استمرارية تدفق المياه هو أحد الأهداف الحيوية والأساسية لأية دولة، وقد احتلت مسألة الأمن المائي خلال السنوات الأخيرة الماضية المكانة الأولى في سلم الأولويات واصبح الحديث عنها لا يقل عن أهمية الحديث عن الأمن العسكري ويكاد يزداد الأمر تعقيداً بالنسبة للشرق الأوسط وخاصة الجزء العربي منه الذي تشكل الصحراء فيه حوالي 43% من مساحته في حين لا تتجاوز نسبة الأراضي الصالحة للزراعة فيه الـ4،9% من إجمالي مساحته ويرى المحللون بان ندرة المياه في المنطقة هذه قد تؤدي إلى احتمال توتر الأوضاع ونشوب حروب إقليمية في المستقبل.
صـــراع الميـــاه
وقد تتمحور المشكلة حول الجدلية القائمة بين محدودية الموارد المائية وازدياد الحاجة الى الماء في مختلف البلدان، إضافة إلى ذلك تخلف طرق الاستهلاك المائي وغياب التخطيط الاستراتيجي له في منطقتنا. مع الأخذ بنظر الاعتبار زيادة نسبة النمو السكاني إلى 3% عن معدلاته.
إن الدور السياسي والاستراتيجي والاقتصادي سيزداد خلال العقود المقبلة على مستوى العالم بصفة عامة وتشير كل الدلائل إلى أن مستقبل المياه في المنطقة هو في غاية الخطورة؛ حتى أن الكل يجمع على أن الصراع على المياه هو السمة التي سوف يتميز بها العقد القادم في المواجهة بين العرب وإسرائيل من جهة، ومن جهة أخرى بين العرب ودول الجوار المتمثلة بتركيا واثيوبيا باعتبار أن تركيا تمتلك أطول حدود مع دولتين هما سوريا والعراق وتشترك معهما في منابع دجلة والفرات، كما إن أثيوبيا ينبع منها نهر النيل الذي يخترق اراضي دولتين عربيتين هما السودان ومصر.
إن ما يثير في هذا الأمر هو التحرك الإسرائيلي والدور الذي تلعبه الصهيونية باتجاه التحالف مع دول المنبع للتنسيق معها لإشعال الأزمة بين دول المنطقة ومن ثم الهائها عن هدف الصراع الحقيقي.
ان إدراك الصهيونية العالمية المتمثلة بدويلة إسرائيل لمدى أهمية المياه للمنطقة هو المحور الذي تبني عليه سياساتها المستقبلية حيالها؛ عالمةً بأن الوطن العربي تصل مساحته إلى 9% من اجمالي مساحة العالم ويضم تجمعاً بشرياً يعد الخامس في العالم، في حين لا تتجاوز موارده المائية الـ74% من الموارد المائية في العالم وبذلك تكون موارده المائية غير كافية لسد حاجته.
وعليه فان الأمن المائي العربي سيحتل موقعاً متقدماً على قائمة أولويات ومكونات الأمن القومي العربي خلال السنوات القليلة القادمة وان مشكلة المياه ستبقى إحدى معوقات التوصل إلى سلام حقيقي في الشرق الأوسط وربما ستشكل الحالة هذه الورقة المهمة في الصراع بين المنطقة وإسرائيل.
النمو السكاني وتطوير الموارد المائية في الشرق الأوسط
مثلما هو معروف فان الحاجة إلى المياه تزداد طردياً مع الزيادة السكانية في العالم، فحصة الفرد السنوية من المياه تتعلق بحجم الاستخدام المنزلي وبمقدار الاستثمارات الزراعية والصناعية في البلد ولكن يتحدد ذلك بوفرة المياه المتجددة سنوياً ومما لاشك فيه إن هناك اعتبارات أخرى قد تلعب دوراً في هذا التجديد.
تحدد الحاجات المائية ببعض العوامل منها النمو السكاني حيث تزداد الحاجات المائية بزيادة عدد السكان وهذه تترافق حتماً مع زيادة المساحات المزروعة والتي بدورها تحتاج إلى حجم اكبر من المياه لاغراض الري.
إن هذه الزيادة المطلوبة للزراعة تتعلق كذلك بنوع الزراعة وكذلك حجم تطور وسائل الري الحديثة بالإضافة إلى الموقع الجغرافي. فمثلاً في البلدان الحارة تكون متطلبات الري اكبر منها في المناطق الباردة وتتوقف حصة الفرد السنوية من المياه على وفرة المياه ومقدار الاستخدام.
ومن العوامل المهمة الأخرى التي تحدد الحاجات المائية هو مستوى تطور القطاع الزراعي الذي يعتمد على طرق الري لان الطرق التقليدية أصبحت متخلفة لانها تسبب هدراً كبيراً للمياه، فعلى سبيل المثال ان المياه التي تلزمنا لري هكتار واحد من الأرض المزروعة لو سقيناه بالطرق التقليدية لاحتجنا إلى 12 ألف متر مكعب في حين أننا لو استخدمنا الطرق الحديثة لري نفس المساحة فلا يلزمنا لذلك غير 7500 متر مكعب وهذا يتعلق كذلك بنوع النبات المزروع فكلما كانت النباتات شرهة للمياه زادت الحاجات المائية؛ لهذا فلابد من اختيار نوع وصنف النبات قبل الزراعة لغرض حساب احتياجاته وعلى سبيل المثال فانه يلزمنا لانتاج طن واحد من القمح 5000 متر مكعب في حين يلزمنا لانتاج طن واحد من القطن 7500 متر مكعب ونفس الحالة تنطبق على القطاع الصناعي فمثلاً نحتاج لانتاج طن واحد من الورق إلى 100 ألف غالون من الماء بينما نحتاج لانتاج طن واحد من الالمنيوم إلى 98.300 غالون من الماء، والحديد يتطلب 62.600 غالون للطن الواحد.
أما العامل الثالث الذي يحدد الحاجات المائية فهو درجة التحضر السكاني ففي البلدان المتقدمة تكون حصة الفرد اليومية من المياه مرتفعة قياساً مع الدول النامية فمثلاً في الولايات المتحدة تكون حصة الفرد 568 وفي الدنمارك 340 وفي اليابان 303 لترات في اليوم الواحد وتعتمد هذه الحاجات على حجم المدن، وفي القرى والضواحي يكون حجم الاستهلاك المائي اقل.
إن نسبة التحضر في البلدان لا بد من أخذها بنظر الاعتبار في احتساب الاحتياجات المائية فنسبة التحضر في العراق قياساً بعدد سكانه مرتفعة لذلك فان متطلبات السكان أكبر، وحصة الفرد في تركيا تتجاوز الـ4000 متر مكعب سنوياً في حين لا تزيد في كل من سوريا والعراق عن 1700، 2400 متر مكعب سنوياً على التوالي.
ومثلما نعرف فان حاجة القطاع الزراعي للمياه تعتبر الأكبر بين القطاعات الأنتاجية خاصة في دول العالم النامي التي يشكل الانتاج الزراعي القسم الأعظم من انتاجها القومي وبالطبع تختلف متطلبات الانتاج تبعاً للمساحة والاصناف النباتية وطرق الري إضافة إلى نسبة العاملين بالقطاع لذا فان هذه الحاجات المائية تشير بشكل واضح إلى حدوث أزمة بالمياه في الشرق الأوسط يمكن ان تجر المنطقة إلى حروب بسبب نقص المياه وزيادة الطلب والذي يعود إلى زيادة عدد السكان وتراجع مناسيب موارد المياه عن معدلاتها السابقة إضافة إلى عامل التلوث للبيئة المائية لذا فالحاجة باتت ماسة إلى تطوير الموارد المائية وتقنينها عبر الاستخدام الأمثل لهذه الموارد ولقد حظيت أبحاث تطوير الموارد المائية باهتمام المختصين الباحثين باعتبارها الحل الأمثل لزيادة هذه الموارد إضافة إلى تلافي الصراعات والحروب المحتملة التي قد تحدث بسبب نقص المياه وقد أسفرت بعض الاقتراحات والدراسات عن إيجاد حلول لتطوير الموارد المائية في المنطقة وذلك عبر بناء شبكات لنقل المياه إلى دول المنطقة التي تعاني أزمة حقيقية في مواردها الحالية أو في المستقبل وقد لاقى البعض من هذه الاقتراحات الترحيب في دول المنطقة في حين لاقى القسم الأخر منها جملة من الانتقادات بسبب الكلفة العالية أو بسبب عدم إمكانية تنفيذ المشاريع لأسباب سياسية تتعلق بالاعتبارات الاستراتيجية لدول المنطقة. هذا إضافة إلى خشية دول المنطقة من استخدام المياه كسلاح ضدها مستقبلاً من قبل الدول المصدرة للمياه أو الدول التي تمر عبرها شبكة المياه نظراً لعدم وجود ضمانات دولية كافية وملزمة تردع الدول التي قد تقوم باستخدام المياه كسلاح ضد دول أخرى فالقانون الدولي لازال قاصراً وليس له صفة الالزام للدول الموقعة عليه.
ومن هذه المشاريع:
أولاً مشروع سحب كتل جليدية من القطب إلى دول الخليج، فالقسم الاعظم من المياه العذبة يقع ضمن المنطقة المتجمدة من الكرة الأرضية وهو غير قابل للاستخدام في الوقت الحاضر على الأقل لذلك يقترح البعض استغلال هذه الموارد وذلك عبر سحب كتل من الجبال الجليدية من القطب الجنوبي إلى دول المنطقة عبر البحار وبعد ذلك تذويب هذه الكتل واستغلالها باعتبارها مياهاً عذبة، لكن هذا الاقتراح لم يلق القبول التام نظراً لكلفته العالية إضافة إلى ذوبان القسم الأكبر منه أثناء فترة النقل عبر البحار وبسبب فارق درجات الحرارة العالية واختلاف المناطق.
أما المشروع الآخر فهو النقل البحري للمياه من الباكستان إلى دول الخليج، وذلك يتم بواسطة البواخر العملاقة وهذا المشروع المقترح يمكن ان نقول عنه انه قابل للتنفيذ في حال انخفاض الكلفة بالقياس بتحلية مياه البحر الذي تعتمده دول الخليج، وكذلك هناك مشروع ثالث وهو مد خط أنابيب بطول 70 كم عبر البحر العربي بعمق 600 متر تحت سطح البحر لنقل المياه بمعدل 520 الف متر مكعب باليوم من نهر منغوي الباكستاني إلى الإمارات العربية المتحدة وتمت دراسة هذا المشروع من قبل شركة بريطانية.
ومن بين المشاريع الأخرى مد خط أنابيب بين إيران وقطر لنقل المياه من نهر الإيراني إلى قطر وذلك لغرض تعزيز العلاقات بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي ولكن هذا المشروع معطل ولم يباشر به مثل باقي المشاريع للمخاوف التي تحاول الولايات المتحدة إثارتها لدى قيادات المنطقة من الدور الإيراني في المنطقة.
أما المشروع الآخر فهو مشروع مد شبكة أنابيب من تركيا إلى دول المنطقة وهو الذي يسمى بمشروع أنابيب السلام الذي اقترحته تركيا لتزويد دول المنطقة بستة ملايين متر مكعب يومياً من مياه نهر سيحون وجيحون وما يعيق تنفيذ المشروع هو الكلفة العالية له والعامل السياسي. أما مشروع مد خط الأنابيب بين السعودية والسودان على ان يتم ذلك عبر البحر الأحمر لتزويد السعودية بالمياه من نهر النيل فممكن أن نقول عنه بأنه مشجع لكن حرب الخليج الثانية التي أهدرت الكثير من الأموال حالت دون تنفيذ هذا المشروع رغم أن كلفة نقل متر مكعب واحد من المياه تعادل 29 سنتاً وهو اقل من كلفة تحلية مياه البحر إضافة إلى ان السودان دولة عربية لا تسعى مستقبلاً لاستخدام المياه كسلاح ضد دولة عربية أخرى كما يعتبر المشروع خطوة نحو التكامل الاقتصادي ويساعد في حل مشكلة السودان الاقتصادية.
إضافة إلى ما ذكرنا من مشاريع مقترحة فإن هناك مشروعين آخرين جرى التفكير بهما الأول هو مد خط أنابيب من العراق إلى الأردن حيث جرت مباحثات بين الجانب الأردني والجانب العراقي حول أمكانية مد خط أنابيب من نهر الفرات إلى الهضبة الشمالية للاردن لكن الشكوك أحاطت بالجدوى الاقتصادية للمشروع وامكانية تمويله نتيجة طول المسافة ووعورة التضاريس وارتفاع التكاليف حيث بينت الدراسة لهذا المشروع ان تكاليفه ستكون بحدود المليار دولار لنقل 160 مليون متر مكعب سنوياً وان كلفة نقل المتر المكعب الواحد من مياه الفرات إلى الأردن تقدر بنحو نصف دولار في الخط الشرقي وبنحو دولار واحد في الخط الغربي.
والمشروع الأخير هو مد أنابيب من العراق الى الكويت حيث قامت بأول دراسة لهذا المشروع شركة بريطانية عام 1953 وفي بداية السبعينات باشرت شركة سويدية بدراسة المشروع تبعتها أخرى فرنسية في مطلع الثمانينات وقدرت الدراسة أن يتم نقل ما يعادل 6165 متراً مكعباً من المياه يومياً منها 1850متراً مكعباً من شط العرب و 4315 متراً مكعباً من نهر دجلة وقد وقعت الكويت في آذار 1989 اتفاقية مع العراق لنقل المياه من جنوب العراق بحجم يتراوح ما بين 550 -1200 مليون غالون يومياً أي ما يعادل 5,2 مليون متر مكعب باليوم كمرحلة أولى وفي المرحلة الثانية بحجم 700 مليون غالون يومياً من مياه الشرب، 500 مليون غالون باليوم للري وتقدر كلفة المشروع بـ5،1 مليار دولار ومدة التنفيذ تستغرق 10 سنوات ولكن المشروع جمد في حينه بسبب الحرب العراقية - الإيرانية ومن ثم حرب الخليج الثانية إضافة إلى الابتزاز الذي مارسه النظام العراقي مع الكويت لغرض تنفيذ المشروع.
هذه مجمل المشاريع المطروحة والتي كان الغرض منها نقل المياه إلى دول المنطقة وهناك تصورات أخرى حول إمكانية استغلال ناقلات البترول العملاقة لنقل المياه وذلك عن طريق ضخ كتلة من غطاء النايلون البلاستيكي ضمن خزاناتها لغرض تغطية جدران الخزانات الداخلية ولابد من استغلال الأنابيب الحالية لنقل المياه بين دول المنطقة بعد إجراء التعديل اللازم عليها. كذلك هناك تصورات حول تحويل نهري سيحون وجيحون ليصبا في نهر الفرات ومن خلاله يتم نقل المياه إلى دول الخليج عبر العراق وذلك بكلفة اقل، بواسطة تنفيذ مشروع أنابيب السلام وكذلك تقليل نسب التبخر من المسطحات المائية باستخدام مواد زيتية او مواد بلاستيكية لتغطية المسطحات المائية الكبيرة بغية تقليل نسبة التبخر.
والدراسة في هذا المجال لازالت تلاقي الفشل وذلك لان الأمواج في البحيرات والأنهار تكسر الغشاء الزيتي الرقيق وتبدده مما يحول دون أداء مهمته.
كما ان الظروف السياسية بعد حرب الخليج الثانية وانقسام دول المنطقة ولجوئها إلى إقامة علاقات خارجية على حساب الدول المجاورة الأخرى، والتدخل العسكري والتواجد الدائم للقوات الاجنبية في المنطقة جعل مجمل هذه المشاريع بحكم المؤجلة إلى حين تغيير الظروف الحالية، كما إن الدول الخليجية التي كان باستطاعتها تنفيذ مثل هذه المشاريع تعاني حالياً من عجز في ميزانياتها، ووجود أولويات في قوائم هذه الميزانيات السنوية جعل من هذه المشاريع ليست مؤجلة فحسب وإنما ملغية.
كيـــف نتعــامـل مع أزمــة الميـــاه
وبعد أن استقصينا جوانب الأزمة، والمشاريع العملية وغير العملية المقترحة لحلها، لا بد أن نعرج على كيفية التعامل مع مشكلة قائمة في أكثر الدول الإسلامية ولا سيما المنطقة العربية عموماً، مع وجود فائض مائي في بعض هذه الدول، والذي يمكن من خلاله إيجاد نوع من التوازن في التوزيع حسب حاجات هذه الدول، كما إن أغلب الدول التي تعاني أو ستعاني من نقص المياه في المستقبل القريب هي من الدول الغنية بالبترول، وبإمكان هذه الدول توظيف هذه الثروة في سبيل توفير موارد المياه لمناطقها وضمان مستقبلها في سد هذه الحاجة الضرورية لإدامة الحياة فيها.
ومن المؤسف أن بعض الدول الإسلامية الغنية بالمياه وتحت ضغوط خارجية حاولت أن تجعل من هذه النعمة ورقة ابتزاز - كما ذكرنا في مثال تركيا - ضد الدول الإسلامية الأخرى، وأطلقت بعض التصريحات الرسمية التي تطالب صراحة بمبادلة الماء بالبترول!
وقد طرح بعض العلماء المعاصرين حلولاً لأزمة المياه والآثار التي تترتب عليها (راجع كتاب: البيئة للإمام محمد حسن الشيرازي) حيث عرض لجوانب هامة لهذه الأزمة، كقضايا التلوث المائي وتقسيم المياه.
وإذا كان لا بد من خلاصة للبحث، فإن أي حلول خارجية بعيدة عن الحل الإسلامي للأزمة لا تجدي نفعاً، أو لنقل بصورة أدق، ان حل أزمة المياه في المنطقة هو حل داخلي يجب ان تعيه دول المنطقة وتشرع في خطط عملية لتأمين هذا المورد الحياتي المهم.
الز