ظهرالتسويق السياسي كنشاط يعبر عنه بآليات السوق خلال العقدين الماضيين، وأولدراسة علمية حوله ظهرت في عام 1990. ويبدو ان نمو هذا النشاط قد جاء علىخلفية فقدان الثقة في الأحزاب السياسية وفي السياسيين، وازدياد الفجوة بينالجمهور والمؤسسات ما زاد من الاتجاهات السلبية نحو الممارسات الديمقراطيةفي المجتمعات الغربية.
ورافق هذا النمط من الصناعة السياسية الجديدةموجة من النقد على اعتبار انه يفرغ السياسة من مضامينها الحقيقية ويحولهاإلى مجرد منتج أو سلعة قابلة للترويج ولتطبيق قوانين العرض والطلب عليها،الأمر الذي يعني ان السياسة سلعة قابلة للبيع والاستهلاك.
وفي الوقتالذي أخذت فيه هذه الصناعة بالاستقرار وشكلت مناخها الخاص بها فيالديمقراطيات الغربية، نجد المفارقات في الآليات التي انتقل فيها هذاالنشاط إلى مجتمعات الديمقراطيات الناشئة والمقيدة أو المجتمعات المتحولة،وتشكل بعض دول الشرق الأوسط احد نماذجها.
ساد خلال السنوات القليلةالماضية في المجتمعات المتحولة، والأردن واحد منها، انماط متعددة منالتسويق السياسي المملوء بالمفارقات، بل ومحاولة شراء وعي الناس بدلا منلفت انتباههم نحو رؤية سياسية جديدة أو تطوير قدراتهم نحو مشاركة سياسيةأو تنموية حقيقية. ولا ينسحب هذا التعميم على كافة حملات التسويق السياسي،على الرغم ان اغلبها وقع في شراك تلك الاختلالات؛ حتى أصبح هذا النمط منالنشاط السياسي التجاري القائم على الترويج وشراء الخدمات الاستشارية احدمظاهر زيف العمليات الإصلاحية على المستويات السياسية والتنموية، حينمااخذ يعمق الفجوة بين المؤسسات والمجتمعات ويزيد من عمق جرح عدم الثقةالمزمن.
تتضح المشكلات السابقة جليا كلما وضعت مضامين حملات التسويقالسياسي على المحك، أو إذا ما جد الجد واختبرت الوقائع مدى جدية تلكالمضامين، الأمر الذي ولد قناعة لدى العامة بعبثية هذه الأنشطة وعدميةالسياسة من خلفها، هذا من جهة، ووضع اليد من جهة اخرى على أهم مشاكلالتسويق السياسي في مجتمعاتنا، وبالتحديد المتمثلة في عدم القدرة علىتأصيل هذا النشاط لكي ينبع من الهوية المحلية وشروطها الثقافيةوالاجتماعية. بل بدا الأمر على طريقة القص واللصق من تجارب مجتمعات اخرىمختلفة في خبراتها ومكوناتها الاجتماعية والنفسية.
الخطورة الحقيقيةالتي كشفتها حملات التسويق السياسي، المرتبطة في اغلب الأوقات بالمالالسياسي الخارجي، تكمن في تزيف الوقائع وتشويهها أو اجترار الماضي؛ ومثالذلك الترويج ضمن حملة تسويقية واسعة لمضامين سياسية اجتماعية حول الزواجالمبكر للفتيات ومحاولة بناء صورة ذهنية، وكأن هذه الظاهرة تبتلع ملايينالفتيات الصغيرات، يتم ذلك في مجتمع تعد فيه مشكلة العنوسة وتأخر سن زواجالإناث التحدي الاجتماعي الأكبر في المجتمعات المحلية الريفية قبل المدنيةبفعل الأوضاع الاقتصادية وانتشار الفقر.
ارتبط نمو التسويق السياسي فيالشرق الأوسط في الفترة الأخيرة بخطاب الإصلاح السياسي بشكل واضح، كماارتبط بالمبادرات الدولية وما حملته من مضامين دعت إلى تحولات عميقة نحوالليبرالية الاقتصادية وقيمها، إلى جانب ما حرضت عليه في بعض جوانبالاصلاحات السياسية والحقوق المدنية والمبادرات التعليمية والإصلاحاتالاجتماعية السياسية مثل أوضاع المرأة والشباب والمشاركة المجتمعية.والمفارقة الأخرى ان بعض القوى الرافضة لتلك المبادرات ولتيار الاصلاحاتالجديد قد استفادت من التقنيات والتجارب التي أتى بها التيار الأول أكثرمن غيره.
تنتشر حملات التسويق السياسي بشكل منظم وغير منظم فيالمنطقة العربية واخذ بعضها مؤخرا التخلص من ارتباطها بفكرة الإصلاح منأصلها. بل يبدو التسويق السياسي احد أشكال العولمة السياسية العائدة منجديد والاندماج في سوق عالمي مواز.
في بعض البلدان اخذ التسويق السياسيالحيز الأكبر في منهج إدارة الأوطان. ويمكن رصد أربعة انماط تسود في هذاالوقت وتبني الخبرة التسويقية في هذا المجال:
النمط الأول التسويقالسياسي الكلي أو الشامل والذي يستهدف كيانات بأكملها، وإذا كان هذا النمطقد انتقل إلينا من الولايات المتحدة الموطن الأصلي له من نمط(الحزب ذوالتوجه التسويقي) إلى نمط(الدولة ذات التوجه التسويقي)، فإننا أخذنا نشهدكيانات سياسية في منطقة الشرق الأوسط تبني مكانتها السياسية ودورها علىاستخدام استراتيجيات*التسويق السياسي*، والذي ينعكس أحيانا في سلوكهاالسياسي أكثر من أي تفاعلات سياسية اخرى.
النمط الثاني هو تسويقالمؤسسات السياسية؛ على الرغم ان هذا النمط يشكل احد الميادين الأساسية فيالتسويق السياسي في الغرب إلا انه ما زال لدينا اضعف انماط التسويق، حيثلم تلج الأحزاب ولا مؤسسات التمثيل الديمقراطي هذا الميدان، ولم تطورتقنيات محلية في سياق آليات التنافس الجديدة للتعبير عن ذاتها.
والنمطالثالث هو تسويق السياسات الذي ارتبط بشكل واضح بالمبادرات الخارجيةوبمشاريع الإصلاح الدولية وبالأجندة الدولية بشكل عام، وقُدم بشكل بائس منخلال مؤسسات المجتمع المدني في أكثر من مكان في العالم العربي مفتقدا ابسطالقواعد العلمية للاتصال السياسي والقواعد الفنية لما يسمى مزيج التسويقالسياسي.
أما النمط الأخير فهو تسويق الرموز السياسية؛ واستفاد من هذهالتقنيات الرموز السياسية المحسوبين على التيارات التقليدية والدينية أكثرمن الرموز التحديثية، حيث استفادوا من المزاوجة بين التقنيات الجديدةوشروط البنية المحلية.
قدرة التسويق السياسي قد تجلت في الولاياتالمتحدة في خلق كاريزميات سياسية جديدة أكثر من أوروبا، لان البنيةالاميركية لا تخلق بذاتها هذه الكاريزميات، الأمر الذي جعل هذه البيئةمضطرة إلى الاستعانة بالأساليب التسويقية لبناء زعامات وقيادات سياسيةتسوقها للرأي العام.
في المحصلة نجد ان خبرة التسويق السياسي المعتمدةعلى تقنيات الاتصال المعاصرة أصبحت صناعة كبرى في الغرب وبلغ دخلها فينهاية عام 1996 ستة مليارات دولار في الولايات المتحدة، شكلت احد مظاهرفشل الاصلاحات في المنطقة العربية، ولم تخدم التحول الديمقراطي وتنميةالمجتمعات المدنية بقدر ما زادت من عبثية السياسة وعدم جدواها في نظرالجمهور، وحولت جزءا كبيرا من المجتمعات المدنية إلى مجرد مؤسسات انتهازيةبدون رسالة مجتمعية حقيقة هدفها الجري وراء المال السياسي، ولو بتزييفالواقع أو اختراعه أحيانا اخرى