مفهوم الصورة الفنية
لكلفنٍّ من الفنون الجميلة وسيلة يَبْلغُ من خلالها غايته ، وهي التأثير فيالمتلقين ؛ والشعر من هذه الفنون الجميلة ، وهو كغيره من هذه الفنون لهغاية جمالية : هي التأثير في المتلقين ، وهو يصل لهذه الغاية عن طريقاللغة ، فالشاعر يستخدم مفردات اللغة بطريقة خاصة بحيث تختلف عن الاستخدامالعادي لها ، ويجعلها أكثر تأثيراً " فالشعر فن ينتهي إلى غايته الجماليةعن طريق اللغة . إنه عالم حي ، منفتح ، متعدد الألوان ، مفاجئ وسحري ،يصلنا بحقيقة حياتيّة أو جماليّة بواسطة اللغة الاستعارة ويولد فينا نتيجةهذا الاتصال نشوة غير عادية . إنه عالم الكلمة الجديدة ، البكر ، العذراء، الرمز ، الإيقاع ، الصورة "(1) .
ولهذه اللغة وسائلها الخاصة التي تُبلّغ من خلالها رسالة الشاعر في نصه ،ومن هذه الوسائل التي تستخدمها ( الصورة الفنية ) : " أحد(*) عمادي لغة الشعر "(2).
والصورة الفنية قديمة قِدم الشعر نفسه ، حيث لا يمكن أنْ نتصور شعراً يخلومن الصورة الفنية ، بل إن بعض الباحثين يرى أن الاستعارة هي لغة الإنسانيةالأولى وأن الإنسان البدائي كان يفكر بالصور(3) . وفي شعرنا العربي نجد الصورة ماثلة في الشعر الجاهلي أقدم شعر وصلنا باللغة العربية ؛ وما قُدّمَ امرؤ القيس(**) بشبه إجماعٍ نقدي إلاّ لإجادته في التصوير (1) وهذا ينطبق على الشعر العالمي كله في أيِّ مكان وزمان .
والصورة في الشعر الأصيل لا يؤتى بها للتزيين والزخرفة اللفظية وإنما هيشيءٌ أصيل تمليه الحالة النفسية للشاعر ، فالصورة الفنية هي الحامل الأمينلمشاعر الشاعر وتُرجمان نفسه الشاعرة ، فالشاعر يترجم أحاسيسه وعواطفه ،وينقل كوامن نفسه من خلال الصورة الفنية التي يبدعها في نصه الشعري ،فالشعر " من حيث هو ذو طبيعة حسية يخضع لنوعٍ من التنظيم أو التشكيل ،ويُبين عن شعور بلغ درجة الانفعال فحرّك الخيال الذي تأطّر في سلسلة منالصور "(2) .
فالصورة – إذاً – هي الناقل الأمين لأحاسيس الشاعر وعواطفه بحيث تتخذ هذهالأحاسيس والعواطف شكلاً فنيًّا بإمكانه أن يؤثر فينا ، ويجعلنا نشاركالشاعر فيما يعتمل في نفسه ، وإن كانت لا تطمح لنقل ذلك ، وإنما تكتفيبرسم الملامح العامة لتجربة الشاعر النفسية ، والإيحاء بها ، فالشاعر"يقصدإلى تثبيت تجربة خاصة بوسائل التصوير والإيحاء ؛ والصياغة في الشعر مقصودةلذاتها لا يتم الإيحاء إلا بها"(3) .
ولننظر إلى قول شاعرنا العربي القديم - مع ملاحظة ما قيل في وصف شعرناالعربي القديم بالحسيّة - حتى نحس معه بمدى الخوف الذي يعانيه . يقولالنابغة الذبياني معتذراً(*) من النعمان بن المنذر وكان قد توعده :
وعيدُ أبي قابوسَ في غيـرِ كُنهِهِ أتاني ودوني راكسٌ فالضواجـعُ
فبتُّ كأنِّـي ساورَتْنـي ضـئيلةٌ منَ الرُّقْشِ في أنيابِها السمُّ ناقـعُ (4)
فالشاعرهنا محموم نالتْ منه أفعى من أخطر أنواع الأفاعي المعروفة في صحراء العرب، فهو يعاني حمّى المسموم الذي ترتعد أوصاله ، ويشرف على الهلاك ، ويلزمالحذر ولا يفارقه ؛ وحيداً في ليله تنتابه المخاوف والظنون ولا يَجِدُ مَنيواسيه أو يخفف عنه آلامه ؛ ويستمر الشاعر في تصوير مظاهر الخوف والإشرافعلى الفناء وحتى عندما أراد أنْ يقسم أقسم بالإبل التي أضنتها الرحلة فيالصحراء فأشرفت على الهلاك ، بل إن بعضها هلك قبل أنْ يدرك الحرم وينالفيه الأمن ، ولعله أراد أنْ يعبر برحلة الإبل عن رحلته هو في الحياة ؛ولعل رحلة الإبل قد اتخذت رمزاً لرحلة الإنسان في هذه الحياة (1) . فهل ينجو شاعرنا أم يهلك قبل أنْ ينال الأمن من صاحبه الذي يقول فيه :
فإنّك كالِليلِ الذي هو مُدْرِكي وإنْ خِلتُ أنَّ المُنْتَأَى عَنْكَ واسِعُ(2)
وبالتدبر في هذا البيت يظهر فيه معنًى دقيق يتجلى في تشبيهه الملك الذييستجدي عطفه ويأمل عفوه بالليل ، وما ينطوي عليه التشبيه من مظاهر الخوفمما يوجد تتبعاً مستفيضاً له في كتب البلاغة ؛ وما جاء الشاعر بهذا الوصفإلا لأنه أصدر أبياته هذه عن نفسٍ خائفةٍ مليئةٍ بالخوف من النعمان ، وهوبالتالي يرى الدنيا سوداء ، ولم يعد يرى منها إلا الليل ، ذلك الليل الذييفرِّقه عن الأصحاب ويتركه نهباً للوساوس والهموم ، وهدفاً للخوف والحزن (3)؛ وهذا ما يجعل المتلقي يلمس دور النفس الشاعرة في بناء الصورة الفنية ،ومدى تأثيرها في الصياغة الفنية حيث تَصْـبُغُ الصورة بلون الشعور الذيتعيشه ، ولو كان الشاعر أصدر عن عقل وتدبُّر صورته هذه ما وجد لفظ ( الليل) بها ، ولأحلَّ الشاعر محلَّه أيَّ شيءٍ آخر مما يُدرك الإنسان كالنهارمثلاً .
فالشاعر هنا في موقف الضعيف يستجدي عطف النعمان ويطلب رضاه حتى ينجو بنفسهمما توعّده به ، فكان من الأحرى به – لو نُظر بعين العقل للأبيات – ألاّيصف الملك في سعة سلطانه وامتداد نفوذه بالليل ؛ وقد عِيبَ بقوله هذا منبعض المتأخرين ، ولكن الشاعر هنا أصدر عن شعور بالخوف والكراهية ونظر إلىالملك نظرةً لا مجال فيها للأمل والرجاء فجاءت صورته قاتمة بلون الليل .
وكثيرةٌ هي الأمثلة على هذا في الشعر العربي القديم وفي نقده – أيضاً –فكثيراً ما تلطّف النقاد في تأويل بعض الصور وحملها على أنها نتاجٌ نفسيٌّيصطبغ بشعور الشاعر .
وهكذا يبرز دور الصورة الفنية في التعبير عن المشاعر والأحاسيس ، ونقلهانقلاً يؤثر في المتلقين ، ويجعلهم يُحسُّون مع الشاعر بالشعور الذي يعانيهأوان إبداع نصه الشعري .
ويمكن إجمال التعريفات الكثيرة للصورة الفنية في تعريفٍ واحد يجمعأشتاتها؛ فالصورة الفنية : ضربٌ من التعبير الأدبي يلجأ إليه الشاعر ليعبرمن خلاله عما يجيش في نفسه من مشاعر وأحاسيس تجاه موقفٍ ما من مواقفه معالحياة وأحداثها ، أو ليعبر عن فكرة ما تدور في ذهنه في برهة من الزمنعندما يشعر أن اللغة المعيارية تعجز عـن تأدية تلك المشاعر والأحاسيس أوالأفكار ليحدث فـي نفس المتلقي التأثير المرجو .(1)
وهي لا تحدد المعالم ولا ترسم القسمات بدقّة لما تحاول أنْ تنقله من مشاعروأفكار ، بل تكتفي بالتلميح والإيحاء ، " فالكلمات والعبارات في الشعريقصد بها بعث صور إيحائية ، وفي هذه الصور يُعيد الشاعر إلى الكلمات قوةمعانيها التصويرية الفطرية في اللغة . (1)
فالشاعر يحاول رسم ملامح تجربته الخاصة بوسائل التصوير والإيحاء ليجعلهاتؤثر في جمهوره بشكل أكبر ويجعلهم يشاركونه فيها ؛ والصورة بهذا المعنى هيالوسيلة المثلى التي يعبر من خلالها الأديب والشاعر– بخاصة – عما يجيش فينفسه
والصورةالفنية وليدة عدة عوامل تتداخل في تكوينها وتوجيهها وتقف النفس الشاعرة فيمقدمة هذه العوامل بما تمتلكه من موهبة قادرة على تطويع مفردات اللغةودمجها في نسق معين لتشكل منها صورة فنية ، ومادام الشاعر يستخدم اللغة فيبناء صورته فإن امتلاكه لناصية هذه اللغة وقدرته على تطويع مفرداتها يعتبرمن أهم العوامل المؤثرة في بناء صوره الفنية .
يُضافإلى ذلك أن الشاعر لا يستطيع أن يغفل عما يحيط به من أشياء وما يجري حولهمن أحداث فالشاعر – وهو ذو نفس مرهفة حساسة – يعيش في مجتمع يعج بالأحداثالخاصة بمجتمعه المحلي ، والعامة الكونية ، وتلتقط حواسه ما يحيط به فيالعالم من أشياء ، وهذه الأحداث والأشياء تنطبع في نفسه ، وكثيرٌ منهايسقط إلى منطقة اللاوعي حيث يبقى مختزناً هناك إلى أن يثيره في نفس الشاعرمثيرٌ ما ، فيستدعي من ذلك المخزون ما يتلاءم مع الحالة التي يريد التعبيرعنها فينظُمه في سلك صوره الفنية ويتخذ منه اللبنات الأساسية التي يقيمعليها عمله الفني ؛ ومن هذا المنطلق فإن الشاعر لا يغفل عما يجري حوله منأحداث وما يحيط به من أشياء ، فهي من أقوى المؤثرات في نتاج الشاعر عامةوإن كان أثرها يبرز بشكل أوضح في الصورة الفنية فهذه الصورة تتخذ مادةتكوينها مما يحيط بالشاعر ويؤثر في نفسه فنجدها تعكس واقعه الاجتماعيوالنفسي في آن معاً .
أهمية الصورة الفنية في الشعر
بالنظر فيما تقدم من هذا البحث ندرك مدى أهمية الصورة الفنية ، فهي الروحالتي تسري في كل عملٍ شعري وتمنحه شاعريته وهي السر الذي يضعه الشاعر فيقصيدته حتى يجعل المتلقي يتفاعل معها ، ويحسُّ بما يريد أن يقول فيها .وقد تطورت النظرة إلى الصورة الفنية عبر العصور ، واختلفت النظرة إليها فيالمذاهب الأدبية الكبرى بحسب الفلسفات القائمة عليها تلك المذاهب (1)، فقد كانت في المذهب الاتباعي (*)- مثلاً – الذي اعتمد على العقل أساساً له خاضعة لسلطان العقل قائمة علىأساس قواعده ، فكان أساسها وضوح العلاقة بين طرفيها ، ووظيفتها التوضيحوالتزيين .فالصورة الفنية الاتباعية كانت نموذجاً عقلياً وقالباً جاهزاً يصب الشاعرفيه مادته ويصوغه في ألفاظ توافق غرضه ، وليس للشاعر الحق في توليدالمعاني وخلق علاقات جديدة بين الأشياء ، لأن المعاني قائمة قبل أن يصوغهاالشاعر في صوره الفنية ، وما على الشاعر إلاّ أن يكسو المعنى بألفاظ توافقغرضه (2). ومع ظهور المذهب الابتداعي (**)في الأدب – وقد قام كردَّة فعل على المذهب الاتباعي – تغيرت النظرة إلىالأدب عامة ، وتغيرت المعايير التي ينظر من خلالها إلى الأدب ، وفي مجالالشعر ضاق الابتداعيون بسيطرة العقل وتقييد الخيال بقواعده ، ونادوابتحرير الخيال تحريراً مطلقاً ، وقد انعكس ذلك على بناء الصورة الفنيةالتي أخذت تتحرر من ربقة العقل وتخضع لخيال الشاعر ، وأصبحت وظيفتها نقلالشعور وتصوير العواطف والأحاسيس ، ولم تعد تلقي بالاً للواقع ، وإنماتعتمد على ما يمليه الخيال ، وقد كان الخيال الابتداعي " خيالاً طموحاًوجموحاً ، يتطلب له مثالاً أينما وجده في غير زمانه ومكانه لا يستوحيهأولاً وأخيراً إلاّ من ذات نفسه ولا يتاح له فهم ما تجيش به عواطفه وآمالهإلاّ بالصور والأخيلة التي يضفيها على الحقائق ... إذ أن الأحاسيس لا تفصحعن نفسها إلا في صور وكل كنوز المعرفة والسعادة الإنسانية مقصورة علىالصورة " (1).وهذا الخيال ليست مهمته قلب الحقائق وتزييفها ولكن وظيفته جعلها أكثرتأثيراً في المتلقين وأعظم نفاذاً إلى قلوبهم عن طريق التقريب بين أطرافالصورة التي تعتبر في الواقع متباعدة ، ولكنها في نفس الشاعر متقاربةلأنها تقع في نفس الحيز الشعوري ويسري فيها نفس الإحساس ، وبالتالي تنقلذلك للمتلقي (2)ومنهذا المنطلق الابتداعي في فهم الصورة الفنية ودور الخيال في بنائها حُررتمن أسارها ومُنحت الفرصة للعب الدور الذي يليق بها في البناء الشعري ، فلمتعد أداة توضيح أو زينة لفظية تضاف إلى المعنى لإظهاره ، والأسلوب لتجميله، وتعتمد أول ما تعتمد على العقل والعلاقات المنطقية والواقعية بينالأشياء ، بل أصبحت ضرورة شعرية ملحة تقتضيها ضرورة العمل الفني في البناءالشعري ، فهي متصلة بالمعنى متداخلة معه ، بل هي التي تُوجِد المعنى وتوحيبه من خلال بناء الكلمات بطريقة خاصة في الصورة الفنية ، " ونحن ننظر إلىالترابط بين الكلمات على أنه خلق لمعنى لم يكن موجوداً " (1)، فعلى الرغم من أن الكلمات تحمل نفس المعاني المعجمية فإنها في كل بناءجديد تتخذ معاني مختلفة وبخاصة عندما تندمج هذه الكلمات بين يدي الشاعرالمبدع في صورة فنية .والصورة الفنية – في الشعر الأصيل – ثمرة تعاون عوامل نفسية عدة ، فهيتعبير صادق عما يختلج في نفس الشاعر من مشاعر وأحاسيس ، يلجأ إليها عندمايشعر بعجز اللغة المعيارية عن أداء ما يختلج في نفسه ، فالصورة في الشعر "ليست إلاّ تعبيراً عن حالة نفسية معينة يعانيها الشاعر إزاء موقف معين منمواقفه مع الحياة"(2).والصورة من هذا المنطلق تحمل أهمية مزدوجة ، فهي بالنسبة للشاعر الوسيلةالمثلى لتصوير النفس البشرية والوقوف على الجوانب الخفية منها والمتمثلةفي منطقة اللاشعور الذي يلعب دوراً بارزاً في تكوين الصورة الفنية ، " فكلصورة في الخلق الفني لها جذورها العميقة في اللاشعور لأن وراء هذا الظاهرالذي نلحظه في ذات أنفسنا مجالاً مظلماً مجهولاً عامراً بالظواهر النفسيةالتي لا نعرف إلاّ انعكاساتها المعقدة المحوّرة وهو مجال اللاشعور "(3). وقد برز التركيز على مجال اللاشعور أكثر ما برز في دراسة الصور الفنية في المذهب السريالي .وعالم اللاشعور يعج بالظواهر الغريبة المتباينة أحياناً " ومن اجل تصويرالحالات الغريبة غير المألوفة فإن الشاعر يلحّ كثيراً على ذخيرته من الصور. ولا شك أن كل الشعر يستغل صوراً ليعبر عن الحالات الغامضة التي لا يمكنالتعبير عنها مباشرةً " (4) . وعليه فإن الصورة الفنية ضد المباشرة والتقريرية اللتين ليستا من روحالشعر ولا يتماشيان مع طريقته الفنية ، وإنما مدار الشعر على الإيحاء الذيلا يتم إلاّ عن طريق الصورة الفنية " فقوة الشعر تتمثل في الإيحاءبالأفكار عن طريق الصور ، لا التصريح بالأفكار مجردة ولا المبالغة فيوصفها " (1)لأن المباشرة والتقريرية تقضي على روح الشعر وتجعله قوالب جافة تدفع للمللوتنفر النفوس منه وتفقده الهزة التي تكون عندما يكون مفعماً بالصورالموحية ، وهذا الإيحاء لا يتم بالمباشرة والتقريرية واستعمال الكلمات فيمعانيها المحدودة وإنما يتم عن طريق الإضمار " وهذا الإضمار مشروع لأنالشرح والتفسير ليسا هما الغاية الأولى للشعر ، وإنما غاية الشعر الوقوع على التعبير الإيحائي الكامل للكشف عن حالة من حالات النفس في صورة وجدانية " . (2) وقد توصل النقّاد العرب القدامى لهذا الدور كما في تحليل قدامة بن جعفر لقول أوس بن حجر(*) يصف أصوات الفرسان أثناء القتال : لنا صرخةٌ ثمَّ إسْتِكَانَةٌ كما طرقتْ بنفاس ٍبكرُ(3)يقولفي تفسير هذا التشبيه : " ولم يرد المشبِّه في هذا الموضع نفس الصوت وإنماأراد حاله في أزمان مقاطع الصرخات ، وإذا نُظر في ذلك وجِد السبب الذيوفَّق بين الصوتين واحداً ، وهو مجاهدة المشقة والاستعانة على الألمبالتمديد في الصرخة " (4)فالجامع هنا بين طرفي التشبيه نفسي ، وهذا ما تنبّه له قدامة في تحليلهلهذا البيت ، ولكن مثل هذه النتف المتناثرة في كتب النقد القديمة لم تكنلتكوّن نظرية شاملة في دراسة الصورة الفنية من هذه الناحية .هذا من ناحية أما من الناحية الثانية فإن الصورة الفنية هي المفتاح الذييستطيع الناقد أو الدارس أن يفتح به مغاليق النص الشعري ، ويلج إلى عوالمهالغامضة ، فعن طريق متابعة فيض الصور الفنية في النص الشعري يستطيع الناقدأن يُلمّ بالحالة النفسية المسيطرة على الشاعر عندما أبدع نصه الشعري " إنفهم التجربة ، وإدراك القيمة الفنية للقصيدة لا يمكن أن يتم للناقد أوالدارس إلا بعد دراسة صور القصيدة مجتمعة وتتبع العلاقة التي تنشأ بينأجزائها ، وذلك لأن في الصورة الشعرية بكل أشكالها المجازية وبمعناهاالجزئي والكلي يكمن روح الشعر ، وفيها تستقر رؤية الشاعر للموقف الذييصوره "(1).ومن خلال تتبع المتلقي للصور داخل القصيدة ودراسته لها يستطيع أن يُلمّ –أو على الأقل يحسُّ- بما يريد الشاعر أن يقوله من خلال نصِّه الشعري فكلصورة في العمل الفني تؤدي وظيفة محددة كما تتعاون مع غيرها على إبرازالصورة الكلية للقصيدة والإيحاء بالجوّ العامّ الذي تحاول القصيدة التعبيرعنه ، وكل صورة فنية في القصيدة يجب أن تحمل صدق الأداء وتتعاون مع غيرهامن الصور الفنية حتى تكون خصبة " وميزة الصورة الخصبة أنْ تُشع في كلاتجاه وأنْ تسمح لك باستكناه مزيد من المعاني كلما أوغلت معها بحسك . إنهاصورة معطاءة تكشف عن المزيد دائماً "(2).ومن الوظائف التي تؤديها الصورة الفنية في النص الشعري (التكثيف الشعوري)فالصورة الفنية " وحدة تعبيرية تجسد قصد الذهن بكثافة " (3)أي أنها توحي بما يختلج في نفس الشاعر من مشاعر وتقدمه في تركيبة تختزل فيداخلها عدة مشاعر وأحاسيس مختلفة ، وربما كانت متباينة أحياناً ، ومصدرهذا التكثيف يرجع إلى الإيحاء وإقامة علاقات جديدة بين أشياء الوجودالداخلة في بناء الصورة الفنية ، فهي لا تقول كل شيء ، وإنما تقول القليلوتترك للمتلقي إكمال الباقي بحسب ما يجد من مشاعر أوحت له بها الصورةالفنية " فمثلاً إذا قلنا : ( وتعالي نقطف الأزهار من روض الحياة ) فقديكون هذا التعبير المجازي أكثر إيجازاً من الحقيقة ويراد بالأزهار اللحظاتالسعيدة أو أيام الصبا الحلوة ، ولكن القطاف يستلزم نوعاً من الاختياروالإرادة والوعي الحر ، ونوع من القدرة في حال سعادة وغبطة ، تدفع إلىالشغف بكل ما يحصل عليه المرء من مباهج العيش ، وفي التعبير بالأزهار مايدل على قصر عمر هذه اللحظات السعيدة التي يجب انتهازها ، وكل هذا مما يشفعن فلسفة خاصة ووعي خاص في الحياة أوحت بهما هذه الصورة التعبيرية فيإيجاز "(1).كل هذا أوحت به هذه الصورة الفنية للناقد ، وهي توحي لي ولك بمثله أوبغيره من المشاعر التي ربما تختلف من شخص لآخر إلى حد التعارض – أحياناً –وهذا يعطي الصورة الفنية مرونة وعمقاً يفتقدهما التعبير المباشر الذي لايتمتع بمثل هذه المرونة ولا يقوى على حمل كل تلك المشاعر والأحاسيسوالمتفاوتة التي حملتها هذه العبارة الموجزة دون أنْ تَنْبُوَ عن الذوقالعام أو تتناقض أجزاؤها .هذا ، ويمكن ملاحظة مثل هذه الكثافة في الصورة الفنية في الشعر ، ولو وقفالقارئ مع أيّ صورة فنية أصيلة قديمةً كانت أم حديثة لما استطاع أنيُؤتيها حقها ولما استطاع أن يُعبر عما تحمله من المشاعر والأحاسيس ،وليُنظر مثلاً إلى قول الشاعر :وجعلتُ كوري فوق ناجيةٍ يقتاتُ شحمَ سَنامِها الرّحلُ (2)
فيهذا البيت يتحدث الشاعر عن رحلته فوق الناقة التي هزلت من طول السفروملازمة الرحل لظهرها . هذا هو المعنى المتبادر إلى الذهن أول مرة ؛ ولكنلو حاول المرء أن يتعمق المعنى أكثر لبدا له أن الشاعر لا يقصد مجردالتعبير عن الرحلة فوق الناقة ، وإنما يربط هذه الرحلة برحلة الإنسان فيهذه الحياة ، فترتيب الكلمات وانتقاؤها يحملان الكثير من المعنى الذي لميصرح به الشاعر ، ولكنه أوحى به بطريقة غير مباشرة ( ناجية يقتات )فالناقة وصفت بأنها ناجية بالذات ولم توصف بأي وصفٍ آخر من أوصاف الإبلوجعل الرحل يقتات شحم سنامها وقال الرحل ولم يقل غيره لاتحاده في الجذر مع( الرحلة ) ، فتركيزه منصباً على الرحلة ، كما يشير ( شحم سنامها) إلىمظهر قوة الناقة – كما هو معلوم – وهكذا جعل الشاعر السعي إلى الحياةوالتعلق بها الطريق إلى فقدها (1) .فالصورة الفنية هنا توحي بإحساس الشاعر العميق بالفناء ، وما تركه هذاالإحساس من المشاعر في نفسه : إنه يتعلق بالحياة أو إن الحياة هي التيتعلق به كما يتعلق أو يعلق الرحل بسنام الناقة ، فيذيب شحمه ويذهب بقوةالناقة كما تذهب الأيام بقوة الإنسان حتى يصل إلى نهاية المطاف – الموت . هكذا انبثق المعنى الكامن من هذه الصورة الفنية في البيت كما ينبثق الماءمن الحجر وأشعّ في كل اتجاه دون أن تحمل الألفاظ أيّاً من المعاني السابقةصراحةً ، وإنما أوحت بها إيحاءً ، وهذا دليلٌ على خصب الصورة الفنية وتعددمستوياتها و" في تعدد المستويات . . . لا تعود المقاربة بين طرفي المشبهوالمشبه به ، بل تصبح شيئاً آخر ، إنها مقاربة بين عالمين : عالم القصيدةالشعري وعالم الواقع الاجتماعي . المقاربة بين هذين العالمين تأتي على حدمرهف فضائي ومتفجر بالإيحاء " (2) والشاعر يستفيد من كل ذلك ليعبّر عن تجربته الشعورية التي تجد في الصورة الفنية خير وسيلة للتعبير عنها .وعلى الشاعر أثناء تعبيره عن تجربته الشعورية المحافظة على وحدة الشعوروهي التي تسمى ( الوحدة العضوية ) وتظهر في تماسك الصور الفنية وانبثاقهاالواحدة من الأخرى حتى تبدو وكأنها تتوالد بحيث نصل من تتبع الصور الفنيةالجزئية في القصيدة إلى الصورة الكلية التي تمثلها القصيدة " ولكل صورة فيالقصيدة وظيفة تتعاون بها مع قريناتها من الصور الأخرى كي تحدث الأثـرالـذي يهدف إليه الشاعر .... ولا يتيسّر للصورة تأدية وظيفتها إلاّ إذاوقعت موقعها الخاص بها في وحدة العمل الشعري بحيث يتوافر لها مع الصدقجمال التصوير وكماله . وتبعاً لذلك يكون مجموع القصيدة ذا وحدة عضويةأيضاً : أي وحدة حية كاملة "(2).والوحدة العضوية للقصيدة تحدث نتيجة تضام الصور الفنية الجزئية إحداها إلىالأخرى ، وخضوعها جميعاً – أي الصور الفنية الجزئية – لشعور واحد مسيطريسري فيها جميعاً دون نظر إلى وضعها الخارجي ، سواءً أكانت منسجمة معالواقع خاضعة لقوانينه ، أم كانت مخالفة للواقع خارجة عن قوانينه .والصورة الفنية هي التي تضمن للقصيدة وحدتها العضوية ، إذ هي التي تُبرزشعور الشاعر وتحمل أحاسيسه ، فإذا كان الشاعر يعبر عن تجربة صادقة بعمقكانت صوره منسجمة متآلفة تفضي السابقة منها إلى اللاحقة وبالتالي تكونقصيدته ذات وحدة عضوية نامية ؛ والوحدة العضوية بمفهومها الحديث من مبادئالابتداعية التي تركتها في الشعر .ومن وظائف الصورة الفنية – أيضاً – أنها وسيلة للكشف والمعرفة فالصورةالفنية ليست مجرد أداة لتزيين اللفظ وتوضيح المعنى ، بل " إن الصورةتستكشف شيئا بمساعدة آخر ، والمهم فيها ذلك الاستكشاف ذاته أي معرفة غيرالمعروف لا مزيد من معرفة المعروف ولهذا لا يكون التشابه بين الشيئينتشابهاً منطقياً (2) .والصورة الفنية تقوم أساساً على إقامة علاقات من نوع جديد بين شيئين أومجموعة أشياء لا علاقة بينها – على الأقل في المستوى القريب – في الواقعوهي في هذه العلاقة ترينا من الأشياء جوانب كنا نجهلها ، أو على الأقل لانهتم بها " إن العلاقة جزء أساسي من الصورة ... إنها نوع من الكشف أوالاكتشاف القائم على قوة التركيز ونفاذ البصيرة التي تدرك ما لم يسبق لنا أن أدركناه ، أو نادراً ما ندركه " (1) . ومن خلال هذا الكشف والتعرف الجديد على الأشياء تتبدل مشاعرنا تجاه الأشياء وتتغير نظرتنا إليها،لأن "الصورة بطبيعتها المرنة صارت أداة خلق . بالصورة تتبدل طبيعة الأشياء . على تبدلها تنقلها الصورة إلينا فتتبدل مشاعرنا تجاه الأشياء (2).فالشاعر يدخل في حوار مع أشياء الطبيعة فيكتشف بخياله مفهومات جديدة لها ،وينقلها لنا عبر الصورة الفنية فيجعلنا نحس تجاه تلك الأشياء نفس الشعورالذي أحسه هو نحوها .ومن وظائف الصورة الفنية في الشعر – أيضاً – تجسيد المجرد فهي تقوم بنقلالمشاعر والأحاسيس والعواطف إلينا بطريقة مقروءة ، بحيث نستطيع أن نحسالمجردات إن جاز التعبير ولنقرأ قول المجنون :كأنّ القلبَ ليلةَ قِيلَ يُغدَى بِليلى العامـريةِ أو يُراحُ
قَطاةٌ عزَّها شَرَكٌ فباتتْ تُجاذِبُهُ وقد عـلِقَ الجناحُ
لها فرخانِ قد تُركا بوَكرٍ فعُشُهما تصفِّقُـهُ الرّيـاحُ
فلا بالليل نالت ما تُرجِّي ولا بالصبحِ كان لها بَراحُ (3)
لندرككيف استطاع الشاعر أن يجسم مشاعره في صورة فنية تقول القليل لتوحي بالكثير، حيث استغل الشاعر مكونات حسية ليعبر عن عواطف مجردة ، وجعلنا نشعر منخلال الصورة الفنية بمدى الاضطراب والقلق اللذين يعانيهما الشاعر في صورةفنية استطاعت أن تجسد هذين الشعورين معاً لأنه " من وظيفة الصورة تجسيدالمجرد أي تحويل المعطيات المجردة إلى معطيات حسية ووضعها بتصرف الحواسوتحت سيطرتها التامة "(1)
(1) – الصورة الشعرية : وجهات نظر غربية وعربية ، د.ساسين عساف ، دار مارون عبود ، لبنان , 1985 م ، ب.ط ، ص12 .
[right](*)- الأصح :إحدى .
(2) – السابق ، ص6. أما العماد الثاني في رأيه فهو ( الإيقاع ) .
(3) –ينظر : الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري : دراسات فيأصولها وتطورها ، د.علي البطل ، دار الأندلس ، ب.بل ، الطبعة الأولى ،1980 م ، ص24 . وكذلك : الصورة والبناء الشعري ، د.محمد حسن عبد الله ،دار المعارف ، ب.ط ، ب.ت ، ص27.
(**)-.وامرؤ القيس هو : امرؤ القيس بن حجر بن عمرو الكندي ...ابن مُرّة بن أُدَد...ابن سام بن نوح عليه وعلى نبينا السلام ، جاهلي من أصحاب المعلقاتمقدّم ، كان أبوه ملكاً طـرده لأنه تغزل بإحدى نسائه ولذا لقِّب بالملكالضِّلِّيل ، قتل أبوه فحمل دمه ، وفي سبيل ذلك سار لقيصر الروم يطلب دعمه، وأهداه قيصر حلة مسمومة لبسها فتقرح جلده وتساقط لحمه .وترجمته في الشعروالشعراء ، 50:1. والخزانة 239:1. وشرح القصائد العشر ، ص 37 .
(1)- السابق ، ص17.
(2)- السابق ، ص43
(3)- النقد الأدبي الحديث ، د.محمد غنيمي هلال ، دار العودة بيروت ، ب.ط ، 1986 م، ص 379. .
(*)-والنابغة هوزياد بن ضِباب ..ابن ذُبيان .... ابن مضر بن عدنان وهو من أصحاب المعلقاتوهو من الطبقة الأولى من الجاهليين ؛ وترجمته في : الأغاني ، أبو الفرجالأصفهاني ، مركز تحقيق التراث ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ب . ط ،1992م ، 3:11 -41. والشعر والشعراء ، ابن قتيبة ، دار الثقافة بيروت ،الدار العربية للكتاب ، ليبيا – تونس ، الطبعة الثالثة ، 1983م 92:1. وشرح القصائد العشر ، الخطيب التبريزي ، تحقيق ، د.فخر الدين قباوة ، دارالآفاق الجديدة ، بيروت ، ب . ط ، ب . ت ، ص4 66 .و خزانة الأدب ، عبدالقادر البغدادي ، تحقيق د.عبد السلام هارون ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ،الطبعة الثالثة ، 1985م ، 135:2.
(4) - الكامل في اللغة والأدب ، لأبي العباس المبرّد ، تحقيق حنا الفاخوري ، دار الجيل ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1997 م ، 131:2 .
(1) – ينظر : نظرية المعنى في النقد العربي ، د.مصطفى ناصِف ، دار الأندلس ، بيروت ، ب.ط ، ب.ت ، ص94 -95 .
(2) – الكامل :131:2.
(3) –ينظر : أسرار البلاغة ، عبد القاهر الجرجاني ، تحقيق د.عبد المنعم خفاجي ود.عبد العزيز شرف ، دار الجيل ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1991 م ، ص231 .
(1)– ينظر : قضايا النقد الأدبي الحديث بين القديم والحديث ، د.محمد زكيالعشماوي ، دار النهضة العربية ، بيروت ، ب.ط ، 1979 م ، ص108 . وكذلك:الصورة والبناء الشعري ، ص29 ، 32 . وفن الشعر ، د.إحسان عباس ، دارالثقافة ، بيروت ، الطبعة الثانية ، 1959 م ، ص90 . والشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية ، د. عز الدين إسماعيل ، دار العودة ،ودار الثقافة ، بيروت ، الطبعة الثالثة ، 1981 م ، ص127 . ودراسات ونماذجحول بعض قضايا الشعر المعاصر ، د.عز الدين منصور، مؤسسة المعارف بيروت ،الطبعة الأولى ، 1985 م ، ص76-77 . ونظرية الأدب ،د.شفيقالبقاعي ، منشورات جامعة السابع من إبريل ، الزاوية ، الطبعة الأولى،1425م ، ص199 . ولغة الشعر العربي الحديث : مقوماتها الفنية وطاقتهاالإبداعية ، د.السعيد الورقي ، دار النهضة العربية ، بيروت ، الطبعةالثالثة ، 1984 م ، ص82 .