بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد ضرورة القانون : الإنسان كائن اجتماعي , إذ لا غنى له عن الحياة في مجتمع , فهو عاجزبمفرده عن الوفاء بمختلف حاجاته و إشباع رغباته , ولذلك لا يعيش بمعزل عنأقرانه . غير أن الحياة في جماعة تتطلب تنظيم سلوكأفرادها و علاقاتهم عن طريق وضع قواعد تبين ما لكل منهم من حق , ما عليهمن واجب , لمنع أي تداخل بين المصالح و لتجنب الفوضى و اختلال التوازن ,وذلك لما زود به الإنسان من أنانية وحب للذات . فلو انعدم مثلهذا التنظيم لكانت الكلمة المسموعة هي الفوضى , ولسادت شريعة الغاب,وأصبحت بالتالي الغلبة للأقوى , و لصدقت كلمة الفيلسوف الفرنسي BOSSUET
(حيث يملك الكل فعل ما يشاء ولا يملك أحد فعل ما يشاء ، و حيث لا سيدفالكل سيد، و حيث الكل سيد فالكل عبد)) (1 ).
لذا ظهرت الحاجةإلى القانون للحد من حريات الأفراد وإزالة ما فيها من تعارض،وللتوفيق بينمصالحهم، و ذلك بعد أن استشعر الأفراد الحاجة إلى قواعد تنظم تصارعالمصالح بينهم، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي بالجماعة كلها . وهو ما لايمكن تجنبه إلا عن طريق فرض سلوك معين يلتزم به الكافة، مما يحقق النظام والاستقرار في المعاملات (2 ) .
1 - انظر في الإشارة إليه حسن كيرة : المدخل إلى القانون ،الطبعة الخامسة (د . ت . ط )،ص1 .
2 - راجع في هذا المعنى عبد المنعم فرج الصدة : أصول القانون ،طبعة،1979ص12 ، توفيق حسن فرج : المدخل للعلوم القانونية ، طبعة1976،ص14-15 و لهذا قال الرومان عبارتهم الشهيرة : ٌٌحيث يوجد مجتمع يوجدقانون (ubi socieietas ibis jus) ″ .
و يطلق على القواعد التيتنظم سلوك الأفراد و تحكم علاقاتهم في المجتمع عبارة " قواعد السلوك "Règles de conduite و تهدف هذه القواعد أساسا إلى تنظيم حقوق الأفراد وحمايتها ، و ذلك عن طريق تحديد مجال خاص بكل فرد من شأنه أن يمنع تدخلالآخرين، و لكن هذا التحديد لا يتأتى إلا بتعيين ما لكل فرد من حقوق وماعليه من واجبات ، على نحو يضمن لكل فرد ، و في آن واحد الاستمتاع بهذهالحقوق- وهو في مأمن من تدخل الأفراد الآخرين- و الوفاء بواجباتهم إزاءهم .
فكل حق يقابله واجب، و من هنا يتبين أن الحق و الواجب وجهان لعملة واحدة،فلا يتصور وجود أحدهما منفصلا عن الآخر ، كما أن الحق لا يوجد بغيرالقانون، و القانون لم يوجد إلا لتقرير الحق و تنظيمه و رسم حدوده وحمايته(3 ) والمثال على ذلك القاعدة القانونية التي أوردتها المادة 124 منالتقنين المدني الجزائري التي تضع واجبا على الفرد بعدم الإضرار بغيره ،والتي تقرر في مقابل هذا الواجب حقا للمضرور ، من جراء مخالفة هذا الواجب، في الحصول على تعويض معين من مسبب الضرر( 4 )
. 3 - علي حسن نجيدة : المدخل لدراسة القانون ،طبعة 1985 ، ص6 ، سمير كامل : المدخل للعلوم
القانونية ، الكتاب الأول ، نظرية القانون طبعة 1985 - 1986 ص6 إسحاق إبراهيم منصور
: نظريتا القانون والحق وتطبيقاتهما في القوانين الجزائرية ، الطبعة الثانية 1990 ، ص27 .
4 - تقضي المادة 124 من التقنين المدني الجزائري بما يلي : ((كل عمل أيا كان يرتكبه المرء و يسب
ضررا للغير يلزم من كان سببا في حدوثه بالتعويض )) . و يلاحظ سقوط كلمة الخطأ من الصياغة
العربية لهذا النص ، مع أن الصياغة الفرنسية له قد أوردتها ، إذ قضت بما هو آت :
((tout fait quelconque de l`homme qui cause à autrui un dommage, obligecelui par la faute duquel il est arrivé ,à le réparer ))
و فيهذا المجال يلاحظ أن كلمة DROIT في اللغة الفرنسية تستعمل للدلالة على كلمن كلمتي ٌالقانونٌ و ٌالحقٌ مما قد يؤدي إلى الخلط بينهما، و تفاديا لهذاالخلط يضيف الفقهاء الفرنسيون إلى كلمة DROIT لفظ Objectif عندما يريدونالتعبير عن القانون ، و يضيفون كلمة Subjectif للتعبير عن الحق ) 5 ( و لاوجو د لما قد يثير هذا اللبس في اللغة العربية التي أفردت مصطلحين لكل منالمعنيين المذكورين، و كذا الأمر بالنسبة إلى اللغة الإنجليزيةLAW وRIGHT.
و نخلص إلى أن دراسة المدخل للعلوم القانونية تتطلب الوقوف على أمرين :
1 - نظرية القانون : وتعالج فيها موضوعات : تعريف القانون , بيان خصائص
قواعده، أقسام القانون و فروع كل قسم و أنواع القواعد القانونية، مصادر القانون ،
و تفسير القانون و تطبيقه .
2 - نظرية الحق : و تدرس فيها المسائل المتعلقة بتعريف الحق ، بيان أنواعه
أركان الحق و مصادره ، و استعمال الحق و حمايته وإثباته و زواله .
و ستنصب دراستنا هنا على الموضوعات التي تنضوي تحت عنوان ٌنظرية القانون ٌعلى أن نتبعها ، إن شاء الله ، بتلك التي ينطوي عليها عنوان ٌنظرية الحق ٌ.
5 - انظر حبيب إبراهيم الخليلي: المدخل للعلوم القانونية (النظرية العامة للقانون ) الطبعة الثانية ، 1983
ص13 , إسحاق إبراهيم منصور : المرجع السابق ،ص27 ، محمد حسام محمود لطفي : المدخل
لدراسة القانون في ضوء أراء الفقه و أحكام القضاء ، الكتاب الأول , نظرية القانون ، طبعة 1993
-1994 ، ص9 - 10 .
القسم الأول : النظرية العامة للقانون المطلب I: تعريف القانون : الاستعمالات المختلفة لمصطلح القانون :
المعنى اللغوي : كلمةقانون تستعمل في اللغة اليونانية للدلالة عن القاعدة المبدأ , و تستعملمجازا للتعبير عن الاستقامة في المبدأ أو في القاعدة , و لذلك يعرفالقانون في اللغة اليونانية KANUN بالعصا المستقيمة , ويعرف القانون فياللغة العربية بالخط المستقيم الذي هو معيار كل انحراف .
المعنى الاصطلاحي : يستعمل مصطلح قانون في جميع مجالات العلوم , إلا
أن معناه يختلف في مجال العلوم الطبيعية و غيرها من العلوم عن معناه في
مجال العلوم القانونية , إذ يعرف القانون في مجال العلوم الطبيعية : بأنه كل
قاعدة مضطردة و مستقرة يفيد اضطرارها و استقرارها نتائج معينة , ومن
الأمثلة عن ذلك قانون الجاذبية التي يعبر عن العلاقة الحتمية بين ظاهرة إلقاء
أي جسم في الفضاء و ظاهرة سقوطه على الأرض , وتوصف هذه الواقعة بأنها
قاعدة تقريرية أي تقرر الواقع كما هو , أي نصف الظاهرة و من ثم فإن
الظاهرة التي تحكمها هذه القاعدة حتمية الوقوع متى توافرت أسبابها و دون أن
يرد عليها أي استثناء .
أما المعنى الاصطلاحي لكلمة قانون في مجال العلوم القانونية فهو : مجموعة
القواعد التي تنظم سلوك الأفراد في المجتمع , و التي تحمله السلطة العامة فيه
على احترامها و لو بالقوة عند الاقتضاء , و توصف القاعدة التي يتضمنها
القانون في معناه في مجال العلوم القانونية بأنها قاعدة تقويمية , باعتبارها قاعدة
سلوك فتبين ما يجب أن يكون عليه سلوك الإنسان , و الإنسان بماله من إرادة
حرة يمكنه أن يعدل سلوكه وفق هذه القاعدة اختيارا و طواعية فإن لم يفعل أجبر
على ذلك , مما يفيد أن الظاهرة التي تتضمنها القاعدة القانونية التي هي قاعدة
سلوك قد يرد عليها استثناء خلافا للقاعدة التقريرية .
استعمال القانون :
بمعناه العام و بإضافة صفة إليه مجموعة القواعد التي تنظم سلوك الفرد فيالمجتمع و استعمال القانون استعمالا خاصا ليكون له معنى آخر .
v يستعمل القانون استعمالا خاصا للتعبير عن أحد مصادره , و هو أن يطلق على القانون لفظ التشريع .
v قد يستعمل القانون استعمالا للتعبير عن أحد فروعه كالقانون المدني , القانون التجاري .
و يلاحظ أن مصطلح القانون DROIT له معنيين هما .
المعـنى الأول : مجموعة القواعد الموضوعية التي تكون القانون .
المعـنى الثاني: الحق , وهو مجموعة المزايا التي ترتبها القواعد الموضوعية ,
تجنبا للخلط بين هذين المعنيين أضاف الفقه الفرنسي على كلمة
DROIT صفة موضوعي objectif بصفة المفرد لتصير العبارة
droit objectif ليعتبر و يدل عن القانون , و أضاف صفة
الشخصيsubjectifs بصفة الجمع ليدل عن الحق و تصير العبارة
subjectifs droit و في الإنجليزية يستعملون كلمة Law ليدلون
عن القانون و كلمة right ليدلون عن الحق .
المطلب Π
تعريف و خصائص القاعدة القانونية
المبحث الأول : خصائص القاعدة القانونية . 1) – مجموعة قواعد اجتماعية .
2) – مجموعة قواعد سلوك .
3) – مجموعة قواعد مجردة و عامة .
4) – مجموعة قواعد ملزمة .
1) – القانون مجموعة قواعد اجتماعية : القاعدة القانونية هي قاعدة سلوك اجتماعية مقترنة بجزاء يوقع جبرا على
من يخالف حكمها .
والقانون يهدف من خلال تنظيم علاقات الأفراد في المجتمع على إقامة
النظام فيه , و منع الفوضى في هذا المجتمع .
ذلك أن القانون إنما يضع قواعد سلوك وفق مبادئ عليا يستهدفها و يتوجه
بها إلى الأفراد في المجتمع حاكمين أو محكومين ليبين لهم ما يجب أن
يكون عليه السلوك في هذا المجتمع .
و حتى يمكن للقانون أن يحقق هدفه , فإنه يفترض توافر أمرين :
§ وجود الإنسان لأن هذا الأخير وحده الذي يمكن أن يكلف بالتكاليف القانونية.
§ وجود بيئة اجتماعية لأن القانون لا يهتم بالإنسان إلا بمناسبة عيشه داخلالجماعة , وإذا كانت الدولة تشكل في الوقت الحاضر شكل أو صورة المجتمعاتالإنسانية فذلك لا يعني أن القانون قد وجد بوجودها بل إن القانون قد عرفتهالمجتمعات السابقة ابتداء من الأسرة إلى العشيرة إلى القبيلة إلى غير ذلكمن صور المجتمعات البشرية , و إذا كان القانون قد عرفته المجتمعات البشريةالسابقة فذلك دليل على أن تطور القانون بتطور المجتمعات , و الذي يتطور هوالآخر بتطور احتياجات الأفراد داخل الجماعة , وإذا كان القانون يهدف إلىإقامة النظام في المجتمع و منع الفوضى فيه عن طريق تنظيم علاقات الأفرادداخل هذا المجتمع , كذلك لا يعني أن القانون لا ينظم جميع هذه العلاقات بلينظم جزءا فقط منها , وهو الجزء الذي يعتبر ضروريا ولازما لإقامة هذاالنظام و الحفاظ عليه . أما غيرها من العلاقات فيترك أمر تنظيمها لقواعداجتماعية أخرى مثل : قواعد المجاملات و العادات و التقاليد و قواعدالأخلاق و قواعد الدين .
2) – القانون مجموعة قواعد سلوك : إذا كان القانون ينظم علاقات الإنسان بغيره من الأفراد في المجتمع , فإنهلا ينظم في الإنسان إلا ما ظهر من سلوكه فلا دخل للقانون في نوايا الإنسانأو مشاعره أو خلجات ضميره و هذا كقاعدة عامة , و القانون مجموعة قواعدسلوكية أي قواعد تقويمية أي ما يجب أن يكون عليه سلوك الإنسان بمعنى أنالمشرع يصوغ القواعد القانونية وفق مثل و قيم يستهدفها عن طريق تكليف بأمرأو نهي عنه , و يتوجه به إلى الأفراد الذين يتعين عليهم طاعته بإخضاعسلوكهم إليه , ويلاحظ أن القانون لا ينظم من الإنسان إلا سلوكه الخارجي ,فلا شأن له بنوايا الإنسان و لا مشاعره النفسية و لا خلجات ضميره .
ولذلك فإن القانون لا يعاقب على مجرد التفكير في ارتكاب الجريمة , إلا إذااصطحب هذا التفكير بفعل خارجي كشراء الأسلحة اللازمة لتنفيذها , في هذهالحالة فقط يتدخل القانون بمنع هذه الجريمة أو توقيع العقاب على مرتكبيها, و لكن ما يجب ملاحظته أن القاعدة عدم اعتداد القانون بالنوايا غير مطلقة, إذ توجد قواعد تستوجب لتطبيقها منها الاعتداد ببعض النوايا .
§القاعدة التي تضمنتها المادة رقم 41 من القانون المدني التي تلزم من يتعسففي استعمال حقه من تعويض الغير عن الضرر الذي أصابه من جراء ذلك
( أي نية الإضرار بالغير )
§ القاعدة التي تقول : القاتل يعدم - هذه القاعدة لا تطبق إلا إذا كانالقاتل قد تعمد القتل , أي توافرت لديه نية القتل , و لا تطبق هذه القاعدةإذا كان القتل غير متعمد كالقتل الخطأ .
3) – القانون مجموعة قواعد مجددة و عامة : إن القانون باعتباره قواعد سلوك اجتماعية , أي تكليف بأمر أو نهي عنه سابقفي وجوده بما يواجهه من فروض يخضعها بحكمه و ذلك لأنه من غير المستطاعالتوقع لما سيجد من هذه الفروض مستقبلا ووضع حكم لكل فرض , يضاف إلى ذلكأن ضمان الاستقرار في المجتمع يستوجب تحقيق المساواة بين أفراده , و لايمكن أن تتحقق هذه المساواة إلا في التكليف في القاعدة القانونية يقوم علىأساس موضوعي لا ذاتي بأن يكون الخطاب في التكليف قائما على عنصر التجريدبتعميم الصفة و ليس بتخصيص الذات .
و على هذا الأساس يمكن تعريفخاصية التجريد في القاعدة القانونية بأن الحكم في القاعدة القانونية يطبقعلى الغرض الذي تتضمنه هذه القاعدة في كل زمن , و بالنسبة لجميع الأشخاصوالوقائع , بمعنى أن الحكم الذي يعتبر الأثر الذي يرتبه القانون على تحققالظاهرة الأصلية , و هي الفرض - إنما يطبق على كل شخص توافرت فيه الصفاتالتي يحددها هذا الفرض كما يطبق على كل واقعة أو تصرف قانوني توافرت فيهالشروط التي يحددها هذا الفرض , وبذلك تتحقق للقاعدة القانونية الخاصيةالتالية : و هي خاصية العمومية , أي عمومية التطبيق , الأمر الذي جعل بعضعلماء الفقه يقول : بأن القاعدة القانونية تبدأ مجردة لتنتهي عند التطبيقعامة .
ولنوضح خاصية التجريد و التعميم في القاعدة القانونية بالنسبة للأفراد و بالنسبة
للوقائع أو التصرفات القانونية .
أ – بالنسبة للأفراد : أي كان آتي فعلا أصاب الغير بضرر يلزم من
تسبب في الفعل بالتعويض .
ب- بالنسبة للوقائع : إذا كان البيع بالعينة فيجب أن يكون المبيع مطابقا
له, ويشترط باعتبار القاعدة القانونية مجردة و
عامة أن تكون شاملة التطبيق أي بأن تطبق على
جميع الأفراد في المجتمع أو على جميع الوقائع أو
التصرفات القانونية.
4) – القانون مجموعة قواعد ملزمة : إذا كان القانون يهدف إلى إقامة النظام في المجتمع و الحفاظ عليه عن طريقوضع قواعد سلوك اجتماعية يتوجه بها إلى الأفراد الذين يمكنهم بما لهم منإرادة حرة طاعة هذه القواعد أو مخالفتها . و إذا كان ضمان استقرار النظامبالمجتمع يستوجب أن يحترم كل فرد في المجتمع القانون و يعمل به , ذلك أنالقاعدة القانونية ليست مجرد نصيحة إن شاء الأفراد انتصحوا بها و إن شاؤواطرحوها , بل هي تكليف في أمر أو نهي عنه يجب طاعته , و لذلك كان من الواجبأن تقترن القاعدة القانونية بجزاء يوقع على من يخالف أحكام القانون , وإنالغرض من هذا الجزاء هو حمل الأفراد على احترام القانون كرها إن لم يقدمواعلى احترامه طواعية و على هذا الأساس يصف الفقه الجزاء في القاعدةالقانونية : بأنه شتر معلق على شرط مخالفة القانون بغية حمل الأفراد كرهاعلى احترام القانون .