لا شك وأن الحضارات القديمة تركت بصماتها التي نلاحظها في عصرنا الحالي، فقد أبدعت تلك الحضارات في أمور عديدة، فكانت الإمبراطوريات والمدن المشيدة والقصور والمعابد والتصميمات المعمارية الممتازة دلالة على وجود عقول مفكرة، وطبعا لن تستطيع هذه العقول القيام بما قامت به إلا إذا سنت قوانين وشرائع، تتعلق أساسا بنظام الإدارة والتي نحن بصدد التكلم عنها في هذا الموضوع، فقد ظهرت ممارسات إدارية في العصور القديمة ظل بريقها ساطعا إلى وقتنا الحالي، رغم أنه لم تكن هناك وسائل تساعد على الإبتكار إلا أن تلك العقول المفكرة استطاعت صياغة فكر إداري للدولة جعلته يرتقي بمفهوم الدولة.
أولا:
مساهمة حضارات قبل الإسلام: قبل ظهور الإسلام كانت هناك حضارات عريقة اهتمت بالجانب الإداري، ولعلنا لن نذكها جميعا ولكن سنركز على البعض منها لنبين مظاهر الفكر الإداري، ومؤشراته.
1/
الحضارة المصرية: ( 4000 – 2000) قبل الميلاد، كان الحكم ملكياً في عصر الدولة القديمة، ويلقب الملك «بالإله العظيم» واعتقد الناس بأنه يسيطر على شؤون البشر في الحياة الدنيا والآخرة. وعرفت الوزارة بعد الأسرة الثالثة أوجدها زوسر وعهد بها إلى نابغة عصره أموحتب الذي اهتم بجميع أمور الدولة. ولم يكن لمصر جيش دائم منظم يعتبر أفراده الجندية مهنة خاصة بهم مع أن رتبة قائد الجيش كانت موجودة، فقد كان الجيش يجمع في المناسبات، فيطلب الملك من حكام الأقاليم جنوداً للحرب فيجهزونهم له ويرسلونهم إلى القتال.
وفي عصر الدولة الوسطى تم تأسيس فرقة الجيش الدائم للدفاع عن البلاد، وعني المصريون بإقامة القلاع كما اهتموا ببناء السفن بعد أن نقلوا الخشب من جبال الأرز في لبنان. وبنوا أسطولا كبيراً للتجارة والقتال.
2/
الحضارة البابلية: ( 2000 – 1800 ) قبل الميلاد، بدأ هذا العصر عندما هاجمت قبائل أمورية بدوية الأراضي الممتدة بين الفرات ودجلة في الوقت الذي كانت المنازعات مستمرة بين المدن البارزة فلم تكن هناك قوة كافية لردع تسربها إلى بلاد الرافدين فاحتلت هذه القبائل مدن عديدة ومن هذه المدن مدينة بابل والتي كانت في ذلك الوقت مجرد محطة للقوافل التجارية . وبذلك كانت أول ومضات الحضارة البابلية على يد الأسرة الأمورية ممن يعود إليها الفضل في إعمار بابل وبدء إزدهار عصر جديد وكان أول من أسس أسرة حاكمة للشعب الجبلي الأموري حاكم بابلي ذي شأن وهو الملك سمو ابوم في القرن التاسع عشر ق.م …وقد سميت إمبراطوريتهم بالبابلية نسبة إلى عاصمتهم بابل أي ((باب الإله) وأمتاز ملوك بابل عن ملوك المدن الأخرى على أنهم كانوا يطلقون على كل سنة من سنين حكمهم أسما يحمل ذكر أهم الأحداث التي حدثت في تلك السنة. وأخيرا سقطت هذه الإمبراطورية بعد ضعف حكم الحكام الذين فقدوا معظم نفوذ المنطقة بعد موت حمورابي مباشرة ولكنها ظلت قوة سياسية وثقافية مهمة ولكن حكامها لم يحاولوا توسيع سلطانها بعد موت حمورابي وبسبب المشاكل الداخلية للدولة أدى إلى احتلالها من قبل الأشوريين . .
3/
الحضارة الإغريقية: ( 500 – 350 ) قبل الميلاد، ظهرت حضارة بلاد الإغريق بشبه جزيرة البلقان وخليج بحر إيجة بالساحل الشمالي للبحر المتوسط بمنطقة جبلية سهولها ضيقة، تتناثر بها مجموعة من الجزر الصغيرة. اتبعت مدينة أثينا نظاما سياسيا ديمقراطيا أساسه المواطنة، يختار فيها الجميع من يحكمهم، باستثناء النساء اللواتي كن محرومات من هذا الحق. طبقت إسبرطة نظام حكم أرستقراطي جعل الحقوق السياسية في يد طبقة «المتساوون» فقط، في حين مُنحت ل«البيريك» حقوق مدنية فقط، أما «الهيلـوت» فكانوا فئة في مرتبة العبيد. ابتكر الإغريق الألعاب الأولمبية التي كانت تقام كل أربع سنوات وتشارك فيها جميع المدن الإغريقية. خلال الاحتفالات بهذه الألعاب الرياضية كانت تمارس طقوس لدينية من أجل التقارب والسلام بين مدن المنطقة. خلف الإغريق حضارة راقية، ساهموا بها في بناء صرح الحضارة الإنسانية.
هناك العديد من حضارات التي ساهمت كل منها في بناء الفكر الإداري، لكن كل حسب طريقته ومعتقداته.
انيا:
مساهمة الحضارة الإسلامية: إبتكر الإسلام وأبدع في الفكر الإداري، الأمر الذي انعكس إيجابا على الجوانب الأخرى كالسياسة والإقتصاد والعلاقات الإجتماعية وغيرها، كل هذا كان بجهود وعبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي تلقى هذه الإمتيازات من الله عز وجل.
لكن ما نلاحظه هنا أن المؤرخون يتجنبون ذكر هذه المرحلة، بما تحتويه من إيجابيات وإضافات للفكر الإداري، والسبب في ذلك أن أغلب المؤرخون أكدوا طغيان النشاط السياسي والحربي في الحضارة الإسلامية مما لم يسمح بتطوير الفكر الإداري، وهذا طبعا خطأ فلا يمكن أن تتطور الأمة في مختلف الجوانب إلا بتطور الإدارة فهي أساس كل النجاحات.
لقد أسس المسلمون حضارة إسلامية زاهرة امتدت لعصور عديدة، ومازالت تعطي دروسا في فنون الإدارة، لكل شعوب العالم وذلك منذ سنة 600 م ، وقد أسهمت في وضع القوانين التشريعات لتنظيم حياة الأفراد وفقا لمبادئ العدالة والمساواة.
وقد تميزت وظائف الإدارة في هذه الحضارة بالبساطة وعدم التعقيد، إذ كان دور الدولة محدود في ذلك الوقت، فقد أقام الرسول دولته على أساس توحيد الأفراد وكانت قراراته أغلبها ذات طابع إستشاري، وكانت المناصب العليا في الدولة الإسلامية لا تخلق مشكلة بين الأفراد ذلك لأن المنصب لا يعطى إلا لمن يستحقه.
فكان التخطيط والتنظيم التوجيه الرقابة في ذلك الوقت بهدف حماية العقيدة من الزوال، فالخطوط العريضة للتخطيط استمدت من تعاليم الشريعة فإذا اعتبرنا أن التخطيط عبارة عن توقع وخطة فإن التوقع بيد الله يلهمه للرسول، والخطة موجودة مسبقا في القرآن الكريم، وهنا نلاحظ أن الرسول لا يخطئ أبدا في هذه المرحلة.
أما التنظيم يقوم على أساس تنسيق الطاقات البشرية والموارد المتاحة لتحقيق الهدف المنشود، والتوجيه يرتبط أساسا بما يجده الأفراد في القرآن الكريم أو في سنة نبيهم، وبالنسبة للرقابة فهناك أجهزة مكلفة بذلك لكن ما نلاحظه أن الأفراد هنا ذاتيي الرقابة، لأنهم يؤمنون بأن الله هو الرقيب الأعلى عليهم.
والنموذج التالي يوضح الإدارة في الحضارة الإسلامية:
نلاحظ هنا أن الإدارة في تلك المرحلة تتركز على أربع وحدات رئيسية، بمفهومنا الحالي:
1/ رئيس الدولة: الشخص المكلف بتسيير شؤون الدولة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر أول رئيس للدول الإسلامية إن صح التعبير، وتلاه الخلفاء الأربع إلى أن نصل إلى ما نشاهده اليوم.
2/ المواطنون: أعطى الفكر الإداري الإسلامي للمواطنين أهمية بالغة في النموذج الإداري، كونهم الركيزة الأساسية في تسيير شؤون الدولة.
3/ النظم السياسية والإدارية: والتي في الأساس وضعت لتنظيم شؤون الدولة والمواطنين.
4/ الشريعة: هي العنصر الأهم في هذا النموذج، فهي الدستور الواحد الوحيد الذي لا يتغير أبدا بتغير الأجيال ولا يخطئ أبدا ولن تجد أمرا من أمور الدولة أو المواطنين إلا وقد ذكر في هذا الدستور.
في الفكر الإداري الإسلامي نلاحظ عدة مؤشرات عن تطور معاني الإدارة والتي نذكر منها:
* إتخاذ القرار مرتبط في الكثير من الأحيان بالإستشارة.
* محاربة الفروقات بين أفراد المجتمع وإعطاء الرجل المناسب المكان المناسب.
* إزدهار الحياة مقارنة بما كانت عليه.
* وضع نظام الخراج (الضرائب) على أساس من العدل.
* انعدام الربا (سعر الفائدة) مما عاد بالفائدة على النظام المالي.
* وجود هيكل تنظيمي يعتمد على الجدارة والكفاءة لا على أسس أخرى.
لكن مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال لم تعد الحضارة الإسلامية تمتلك تلك القوة الإدارية، بل بالعكس ضيع المسلمون كل مبادئ الإدارة التي ورثوها عن أجدادهم، قاموا بإهمالها واستبدالها بمبادئ أخرى ظنا منهم أنها تتماشى مع عصرهم، وهنا كانت الكارثة فأصبحت هناك دساتير لا تعتمد رأي الشريعة وذهب أغلبهم إلى تصديق فكرة فصل الدولة عن الدين، إلى أن وصل انحطاط المسلمين إلى ما نحن عليه الآن.
.........................يـتـبـع............................