عاشق الرومنسية مشرف عام
الجنس : السٌّمعَة : 16 الْمَشِارَكِات : 2394 النقاط/ : 4128 العـمــر : 34 الدولة : المتصفح :
| موضوع: المرسلة الشعرية: من اعتباطية العلامة اللغوية إلى الأيقونة الإثنين ديسمبر 20, 2010 3:02 pm | |
| المرسلة الشعرية: من اعتباطية العلامة اللغوية إلى الأيقونة </STRONG> د. حسن مزدور</STRONG> مقدمة منهجية: </STRONG> تعددت المداخل إلى السيميائية على مستوى الفهم والتفسير، لكن الشيء الثابت في هذا العلم أنه يتحدد بمنهجه لا بأفكاره، وبموضوعه وليس بالنتائج التي يفضي إليها، وهذا ما يبرر اختلاف أقطاب البحث السيميائي في تفسير موضوعات بحوثهم. من أجل هذا كان ينبغي أن أقدم لهذه المداخلة بمقدمة أبين فيها المرجعية المعرفية التي تستند عليها، والخطوات المنهجية المتبعة. </STRONG> تستمد هذه المداخلة جانبها النظري من مصدرين رئيسيين: أولهما، ما كتبه السيميائي الأيطالي ٌايكو Umberto Eco ٌ حول المرسلة الشعرية في كتابه "البنية الغائبة" في فصل تناول فيه المرسلة الشعرية في علاقاتها المتعددة بالعالم الذي تعبر عنه وبالناس الذين تتوجه إليهم عبر نظام لغوي علامي (1). </STRONG> ثانيهما، ما كتبه العالم الفرنسي "بيرس - Charles Sanderce في كتابه "مدخل إلى السيميوطيقا" (2) حيث استعنت بتقسيمه الثلاثي للعلامة في تفسير نظام المرسلة الشعرية العلامي. وقد اخترت لتطبيق هذه المقولات النظرية نصاً شعرياً للشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي بعنوان، "أنا.. والمدينة" (3). </STRONG> يرى أيكو أن المرسلة الشعرية تشغل وظيفة جمالية عندما تكون مبنية بشكل غامض، وتظهر كاستبطان ذاتي، أي عندما تسعى إلى لفت انتباه المرسلة إليه إلى شكلها بالذات قبل أي شيء آخر، مع إمكانية تأديتها للوظائف الأخرى التي ذكرها "رومان جاكوبسن" لوظائف اللغة. </STRONG> والمرسلة الشعرية يبني غموضها أساساً نظام تشفيرها الخاص، فتظهر نتيجة لذلك غنية بالمعلومات توفر للمتلقي عدة اختيارات في التفسير. كما أن غموض المرسلة الشعرية هو الذي يثير اهتمام المتلقي ويوقظ انتباهه ويدفعه لبذل مزيد من الجهد في الكشف عن اتجاهات لتفكيك المرسلة، والبحث في الفوضى الظاهرة (الغموض) عن نسق هو أكثر دقة لتفكيك المرسلة. </STRONG> ويرى أيكو أن ما يحصل للمرسلة الجمالية شبيه ما يحصل للحكاية التراجيدية حسب قواعد المفهوم الشعري لأرسطو. يجب على الحكاية أن تؤدي إلى شيء يفاجئنا ويخرج عن المألوف، ولكن لكي يقبل هذا الحدث ونستطيع الاندماج فيه لا بد أن يخضع لقواعد التصديق وإمكانية التحقيق. </STRONG> وكذلك الشأن بالنسبة للمرسلة الشعرية الغامضة التي تترك المتلقي بين الخبر والتهيب – Redondance وتدفعه إلى التساؤل عما تريد قولـه، بينما يرى عبر ضباب الغموض شيئاً يوجه في الأساس تفكيكه للمرسلة. </STRONG> ومرسلة من هذا النوع لا شك أنها ستدفع بمتلقيها إلى معاينتها ليرى كيف هي مصنوعة. </STRONG> ويشير ايكو إلى أن المرسلة تحقق وظيفتها الجمالية بخرقها للمقايس العادية التي تنتظم الكلام، بل إن المرسلة الشعرية هي انزياح وخرق لنظام التواصل العادي بجميع مظاهره، الأمر الذي يجعل لغة الأثر الأدبي لغة فردية. Idiolecte." (4) </STRONG> وباعتبار البحث في جماليات المرسلة الشعرية هو بحث في مجمل الظواهر التابعة لمادة التعبير انطلاقاً من النظر إلى النص الأدبي على أنه نظام من العلامات الدالة، سأعتمد في تفكيك شفرة هذا النظام العلامي على نظام بيرس وتقسيمه الثلاثي للعلامة. </STRONG> فعلى خلاف تقسيم "فردينا ند دي سوسير" الثنائي للعلامة، قسم بيرس العلامة إلى أنواع ثلاثة: الرمز - Symbole الذي يعني في الأصل علامة Signe ومنه العلامة اللغوية، وهي علامة اعتباطية لأن العلاقة فيها بين الدال والمدلول غير معللة أي اصطلاحية" (5) بمعنى أن فهمها يتطلب معرفة مسبقة وتعلما. </STRONG> النوع الثاني، هو المؤشر – Index أو القرينة وفيه تقوم العلاقة بين الدال والمدلول أو بين العلامة والواقع الخارجي على مبدأ التجاوز. والمؤشر يتحدد بموضوعه الذاتي أو ديناميته الخاصة بفضل كونه في علاقة حقيقية معه عن طريق إقامة علاقة سببية بين واقعة لغوية أو حدث لغوي وبين شيء تدل عليه هذه الواقعة" </STRONG> (6). </STRONG> أما النوع الثالث من العلامات عند بيرس فهي الأيقونة Icon c والأيقونة علامة تدخل في علاقة مع الواقع الخارجي وتظهر خصائص الشيء المشار إليه، بمعنى أن الشيء يكون أيقونة لشبهه عندما يستخدم علامة له" (7). </STRONG> ويميز بيرس بين ثلاثة أنواع من العلامات الأيقونة هي: الصورة، الرسم التوضيحي والبياني، والاستعارة" (8). </STRONG> وإذا كانت شفرة المرسلة الشعرية تتكون من علامات لسانية اعتباطية وغير معللة في الجوهر، فإن هذه العلامات تتشكل في انساق عبر مستوى نص المرسلة كما هو الحال في الصورة الاستعارية في الشعر أو عند وصف مشهد مكاني أو رسم شخصية قصصية أو تجسيدها درامياً، على مستوى معلل بسبب درجة التماثل بين العلامة والواقع الخارجي. وفي هذه الحالة يمكن للنص الأدبي أن يقابل في بعض مستوياته العلامة الأيقونة أو نسقاً من هذه العلامات، باعتباره علامة معللة وليست اعتباطية، تقوم فيه العلاقة بين شكل الدال (النص) والمدلول (محتوى الرسالة) على المشابهة" (9) وهذه النظرة تنسجم مع ما ذهب إليه النقاد الجماليون من أن الشعر تعبير بالصورة أو أن القصيدة الشعرية ما هي إلا صورة تجسد انفعالات داخلية. </STRONG> ويشير بيرس أيضاً إلى انطواء المؤشر على نوع من الأيقونة لأن المؤشر علامة تشير إلى الموضوعة التي تعبر عنها وتتأثر بها ولكنها أيقونة من نوع خاص" (10) ويخلص إلى التأكيد على وجود مظاهر للتداخل والتبادل بنسب مختلفة بين العلامات الثلاث؛ الرمز، المؤشر والأيقونة" (11) </STRONG> ومن هنا نرى أهمية نظام بيرس السيميائي الثلاثي في الكشف عن المتجليات الأدبية للعلامة. وهو ما سنقوم باعتماده في تحليل نص المرسلة الشعرية. </STRONG> نص المرسلة الشعرية. "أنا.. والمدينة" </STRONG> 1.هذا أنا، </STRONG> 2.وهذه مدينتي، </STRONG> 3.عند انتصاف الليل </STRONG> 4.رحابة الميدان والجدران تل </STRONG> 5.تبين وتختفي وراء تل </STRONG> 6.وريقة في الريح دارت، ثم حطت، ثم ضاعت في الدروب، </STRONG> 7.ظل يذوب </STRONG> 8.يمتد ظل </STRONG> 9.وعين مصباح فضولي ممل </STRONG> 10.دست على شعاعه لما مررت </STRONG> 11.وجاش وجداني بمقطع حزين </STRONG> 12.بدأته ثم سكت </STRONG> 13.من أنت يا.. من أنت؟ </STRONG> 14.الحارس الغبي لا يعي حكايتي </STRONG> 15.لقد طردت اليوم من غرفتي </STRONG> 16.وصرت ضائعاً بدون اسم </STRONG> 17.هذا أنا، </STRONG> 18.وهذه مدينتي، </STRONG> أحمد عبد المعطي حجازي </STRONG> عند فحصنا لهذا النص، ولأي نص آخر نواجه في حقيقة الأمر بنصين اثنين، أولهما العنوان، وهو أول ما يواجهنا لاحتلاله –عادة –موقعاً متميزاً بوصفه نصاً أصغر وظيفته حسب "غريفال Grivel" (12) يحدد، يوحي ويمنح النص الأكبر قيمته. ثانيهما، هو نص القصيدة التي تعتبر امتداداً للعنوان بما تتضمنه من علامات لغوية وغير لغوية، تتعانق وتتآلف فيما بينها لتفضي إلى الدلالة. </STRONG> وتأسيساً على هذا البعد العلائقي يبسط العنوان ظلاله على النص ويحدد هويته باعتباره خلاصة أو فكرة عامة للمحتوى. </STRONG> يوحي عنوان هذه المرسلة بوجود ذاتين: ذات الشاعر وذات المدينة وعطف الثانية على الأولى يجعل كل منهما منفصلة عن الأخرى ومستقلة عنها، في حين أن هذا الاستقلال لا يلغي وجود علاقة ما بينهما. كما أن نفي الاتصال التام بين الذاتين، والإيحاء بنوع من الاتصال هو الإشكال الذي يثيره العنوان ليعالجه نص المرسلة. </STRONG> وعنوان النص الذي بين أيدينا "أنا.. والمدينة" مشكل من ضمير المتكلم المفرد (أنا) وهو مؤشر يشير إلى أنا /الشاعر المتكلم في النص أو هو يشير إلى كل (أنا) ممن هم في وضع الشاعر وعاشوا التجربة نفسها أو تجربة مشابهة لها. ثم كلمة (المدينة) وهي علامة عرفية اصطلاحية تفهم في سياق مرجعية معينة، تحددها هنا التعيينات أو السمات الواردة في النص الشعري. وقد جاءت هذه العلامة مسبوقة بحرف (الواو) الذي يحمل هنا معنى المواجهة بين طرفين: (أنا) و(المدينة)، ثم وجود نقاط (..) تفصل بين العلامتين، والنقاط تشير في عرف الكتابة إلى وجود كلام محذوف يمكن استرجاعه من خلال قراءة نص القصيدة الشعرية. </STRONG> والعنوان بهذا المعنى يشكل أيقونة لشبهه (النص) لأنه استخدم علامة له. </STRONG> أما إذا انتقلنا إلى شفرة المرسلة التي يتضمنها الخطاب الشعري، ونظرنا إلى العلامات اللغوية في استقلالها عن وظيفتها، نجد أن أغلب العلامات للغوية عرفية: (المدينة، الميدان، الجدران، تل، وريقة، مصباح، غرفة حارس)، يتحدد معناها من خلال التعيينات المعجمية. </STRONG> كما نجد أيضاً مؤشرات بنسبة أقل مثل، (أنا، مدينتي، جاش، طردت، غرفتي... الخ). </STRONG> لكن وجود هذه العلامات داخل نسيج نص القصيدة تؤدي وظائفها المختلفة، يحول هذه العلامات من مجرد علامات معجمية إلى حقل علامات توليدية لا متناهية، تحيل إلى مدلولات ضمنية أو صريحة، تتحول فيها العلامات العرفية الاعتباطية إلى أيقونات (استعارات أو مشاهد) أو مؤشرات على حالات نفسية أو معاني فكرية. </STRONG> وفحص العلامات داخل نسيج النص وهي تؤدي وظائفها يتطلب منا القيام بخطوة إجرائية أولى تهدف إلى تحديد المقاطع التي يتمفصل وفقها النص. </STRONG> وتعد عملية التقطيع على المستوى المنهجي أساسية لأنها تمكننا من السيطرة على النص خلال عملية التحليل، إذ نستطيع تحديد مكونات النص الشعري من خلال المقاطع المختلفة. </STRONG> غير أن النص ليس عملية بسيطة إذ تتطلب معياراً ملائماً ينسجم مع الجنس الأدبي ونوعه. وقد حدد (جريماس Greimas) مفهوم المقطع في معرض دراسته للحكاية بأنه كل مقطع سردي قادر على أن يكون بمفرده حكاية مستقلة وأن تكون له غايته الخاصة به، لكن يمكن أن يدرج ضمن حكاية أعم، وأن يؤدي وظيفة خاصة" (13). </STRONG> بناء على هذا التحديد يمكن تقطيع النص وفق معيارين: دلالي أو مكاني. </STRONG> وقد اخترت المعيار الأول لأنه الأنسب للنصوص الشعرية بحيث تجتمع السطور الشعرية المكونة للمقطع الواحد حول دلالة أو (تيمة) معينة. </STRONG> يبدو النص –نظراً لصغر حجمه وتلاحم أجزائه –وكأنه يشكل مقطعاً واحداً، ومع ذلك فضلنا أن نوزع سطوره الشعرية على ثلاثة مقاطع كما هو مبين. </STRONG> يبدأ النص في مقطعه الأول باسم الإشارة "هذا" معطوف عليها اسم الإشارة "هذا" لكل من (أنا) و(مدينتي) لترسيخ معنى الانفصال بين الذاتين المثار في العنوان كما أن استخدام اسم الإشارة لكل من الذاتين يدل على وعي الذات لوجودها المستقل وهو ما يدل على وجود هوة بين الذاتين مما يجعل ذات الشاعر قلقة متوترة. </STRONG> والمقطع مشكل من مركبات اسمية يوحي أثرها بالسكون وغياب الحركة، وهو ما ينسجم من دلالة المقطع حيث يعرض فيه (أنا /الشاعر) المواجهة بينه وبين مدينته في زمن محدد (انتصاف الليل)، بداية لتوليد الصورة التي تعكس طبيعة هذه المواجهة. </STRONG> وفي خلال التشكيل تتحول العلامة اللغوية (المدينة) الواردة في العنوان إلى مؤشر باتصالها بضمير المتكلم لتشير أن مدينة بعينها هي مدينة الشاعر. </STRONG> كما يتكون هذا المقطع من أشياء بصرية لها مرجعيتها الخارجية، (رحابة الميدان –الجدران تل) والتل يشكل في السياق انحرافاً يفهم في إطار مرجعية ريفية أوجدها اللاشعور في محاولة للموازنة بين بيئتين مختلفتين هما حياة الريف وحياة المدينة وحنين ذات الشاعر إلى الحياة الأولى. </STRONG> وعلاقة الشاعر هنا بالأشياء ليست علاقة عشوائية، بل هي نابعة من رؤية شعرية وإبداعية تحول الأشياء من مجرد أشياء لذاتها إلى أشياء لذات الشاعر، تعكس درجة علاقة الشاعر بالمرجع الخارجي الذي تحيل إليه التجربة، وبهذا لا تغدو الأشياء داخل نسيج النص مجرد مفردات، بل حقل من العلامات الدالة. </STRONG> فالميدان على رحابته يبدو في عيني الشاعر ضيقاً تحجزه جدران البنايات الشاهقة، وتحجب الأفق فتثير الشعور بالضيق والاختناق، كما أن ارتفاع الجدران واصطفاف بعضها في إثر بعض يولد الإحساس بتفاهة الإنسان وقزامته أمام هذه الهياكل الضخمة والفضاءات الشاسعة. </STRONG> أما المقطع الثاني فيتشكل من سبعة سطور أغلبها مركبات فعلية تكسر الرتابة وتبعث الحياة في المكان والزمان من خلال الأفعال (دارت، حطت، ضاعت، يذوب، يمتد، دست، مررت، جاش، بدأته، سكت). </STRONG> هذه الحركة المتصاعدة هي حركة داخلية تجسد أثر فعل المدينة على أنا /الشاعر. يعلن السطر الأول من هذا المقطع عن وجود ثالث يدخل معادلة (أنا /الشاعر –المدينة) هو هذه الوريقة التافهة التي تعبث بها الريح في فضاء مدينة المدينة ثم ترمي بها في الدروب. وهو المعنى الحرفي المباشر لهذا المشهد المتحرك أو ما يسميه رولان بارث (دلالة المطابقة -Dénotation). حيث تنطوي العلامة على دال ومدلول، أما في حالة الأدب أين تؤدي لغة المرسلة الشعرية وظيفتها الجمالية، تنتقل العلامة من كونها عناقاً بين دال ومدلول إلى كونها دالاً لمدلول آخر هو المعنى الإيحائي أو ما يسميه بارت (دلالة الإيحاء - Connotation). (14) فصورة الوريقة هي استعارة تصريحيه يراد بها ذات الشاعر على سبيل الرمز، وبالتالي تتحول صورة الوريقة التي تتقاذفها الرياح إلى مدلول آخر هي صورة لحالة نفسية متأزمة تشعر بالتهافت والضياع. </STRONG> وهنا نلاحظ بوضوح تام كيف تتحول العلامات اللغوية العرفية داخل نسيج نص المرسلة الشعرية إلى ِأيقونة تقوم فيها العلاقة بين الدال والمدلول على مبدأ التشابه، والتشابه هنا قائم بين حال الوريقة المستسلمة لقوة الريح وبين إحساس الشاعر بالتيهان والضياع. وهي طريقة الشعراء في تحويل ما هو داخلي إلى شيء خارجي وما هو باطني مجرد إلى صورة بصرية مجسدة، مستعينين في تحقيق ذلك على حاسة البصر قناة اتصال بالأشياء الخارجية. </STRONG> وقد استطاع الشاعر أن يخلق من حقل الدوال الذي هو في الأصل مجموعة من العلامات الاصطلاحية والعرفية المجردة، حقلاً بصرياً أيقونياً، وهو في الوقت نفسه حقل دال وإنساني يخرج من إطاره المادي الموضوعي ليكتسب ثراء ذاتياً وإنسانياً، وحركة في الزمان والمكان. </STRONG> كما أن (فضاءات المدينة) ليست مجرد مدركات بصرية خارجية على المستوى العلامي الأيقوني فقط، بل تنتقل لتحقيق دلالات سيميائية أخرى. </STRONG> (فالمرئيات) مؤشرات (Index) على كيانات إنسانية عن طريق علاقة المجاورة. </STRONG> يسيطر الإحساس بالضياع على الشاعر ويتضخم في السطرين المواليين حتى يتوهم أنه مجرد ظل يمتد وينكمش بحسب قربه أو بعده عن أشعة أنوار المصابيح المنعكسة عليه. </STRONG> "وعين مصباح فضولي ممل" </STRONG> في السطر الشعري إعلان عن وجود آخر هي المصابيح، وهي شيء من أشياء المدينة، وهي هنا بدلاً من أن تكون هادية للطريق تتحول في عين الشاعر إلى جاسوس يثير الشعور بالمقت والنفور، فيزداد إحساسه بالعزلة والضياع لذلك يدوس الشاعر على شعاعه. </STRONG> وينطوي هذا السطر الشعري على صورة استعارية، والاستعارة تمثل انزياحاً وخرقاً واضحاً لنظام اللغة العادي، وتمرداً على سلطة المعاني الأليفة (دلالة المطابقة)، لأن المفردة في الاستعارة تبطل عن أن تكون إشارة إلى مفهوم يحيل إلى شيء، بل تختار مفهوماً آخر غير الذي تحيل إليه، شأنها في ذلك شأن مشهد الوريقة الواردة سابقاً. أي أن المفردة في الاستعارة لا تحيل إلى المعنى الذي تشير إليه مباشرة بل تطلب معنى آخر يشبهه (دلالة الإيحاء)، وهو ما يجعل صورة المصابيح التي تنير شوارع المدينة وتكشف الحركة فيها، تتحول في عين أنا /الشاعر إلى عين فضولي متطفل يراقب تحركاته. </STRONG> والصورة الاستعارية التي تتشكل أساساً من علامات عرفية هي في الأخير أيقونة بسبب درجة التماثل بينها كعلامة وبين الواقع الخارجي. </STRONG> وتلتقي صورة عبث الريح بالوريقة مع عبث المصابيح بظل الشاعر للدلالة على شيء واحد هو هوان الإنسان في المدينة، وتحوله إلى شيء كالوريقة أو الظل. </STRONG> تشكل القصيدة في سطورها التسعة الأولى، ثنائية ضدية بين ما هو خارجي وما هو داخلي أي بين فضاءات المدينة وأشيائها وبين الحالة النفسية المتأزمة ل / أنا الشاعر فلا نرى الداخلي إلا من خلال كيفية الخارجي، في حين يصطبغ الخارجي بصبغة الداخلي. </STRONG> وعندما تترجح كفة الأشياء المادية الممثلة للخارج على كفة الذات المتأزمة يشعر أنا /الشاعر بالانسحاق والضياع أمام عالم الأشياء الذي يبدو معادياً، فيستسلم لضعفه أمام ركام الأشياء. و(يجيش وجدانه) ويجهش. </STRONG> ويأتي المقطع الأخير ليقطع على أنا /الشاعر استغراقه الداخلي على صوت إنساني يسأله عن هويته: </STRONG> من أنت يا.. من أنت؟ </STRONG> إنه صوت الحارس، وهو كما يبدو صوت غير مؤنس، فهو لا يخاطبه باسمه أو بأي اسم تطمئن له نفسية الشاعر، بحيث يستخدم أداة النداء (يا) ملغياً بذلك ذاته وهويته وانتماءه إلى المدينة. كما أن في السؤال (من أنت؟) ما يدل على اتهام وإدانة ينفعل له الشاعر ويغضب، وهو الذي كان يأمل ولا شك أن يجد من يخفف همومه، ويؤنس وحشته فإذا به يزداد هما على هم فيصف الحارس بالغباء لأن موقفه العدائي غير مبرر. فثمة حكاية يحملها الشاعر بين جوانحه تفسر معاناته وتشرح سر تلك النظرة السوداوية للمدينة وأشيائها، فنعرف من خلال بوحه أنه طرد من غرفته لسبب من الأسباب فوجد نفسه يتسكع وحيداً في شوارع المدينة ليلاً. وهي السطور الشعرية المفاتيح التي تكسب المرسلة معناها وتضئ جوانبها بل هي السطور التي تفهم في ضوئها التجربة الشعرية كلها. </STRONG> وينهي الشاعر القصيدة كما بدأها: </STRONG> هذا أنا، </STRONG> وهذه مدينتي، </STRONG> وهو ما يوحي بمرارة التجربة وعمق آثارها على نفسيته من جهة، وترسيخ فكرة انفصال ذاته عن ذات مدينته من جهة أخرى بعد أن عرفنا حكايته وكيف أن المدينة قد حاصرته وسلبته ذاته واسمه وحولته إلى شيء تافه لا قيمة له. </STRONG> المصادر والمراجع </STRONG> 1.أمبرتو ايكو ".لمرسلة الشعرية". نص مترجم. مجلة الفكر العربي المعاصر. العددان 18 –19 .1982 مركز الإنماء القومي. بيروت لبنان. ص: 102 –106 </STRONG> 2.شارل سندرس بيرس. مدخل إلى السيميوطيقا. إشراف سيزا قاسم ونصر حامد أبو زيد. القاهرة. 1982. ص: 30 –350. </STRONG> 3.أحمد عبد المعطي حجازي. الديوا. دار العودة بيروت. لبنان. ط: 2. 1982. ص: 188 –189. </STRONG> 4.للمزيد من المعلومات راجع "المرسلة الشعرية". </STRONG> 5."مدخل إلى السيميوطيقا" ص: 142. </STRONG> 6.المرجع نفسه. ص: 355. </STRONG> 7. المرجع نفسه. ص: 142. </STRONG> 8. المرجع نفسه. ص: 252. </STRONG> 9. المرجع نفسه. ص: 30. </STRONG> 10. المرجع نفسه. ص: 355. </STRONG> 11. المرجع نفسه. ص: 253. </STRONG> 12.Ch. Grivel: du titre,un Production de: l’ intérêt romanesque. Paris Lahay, Mouton, 1973. p: 170. </STRONG> 13.Greimas (A.J). Du SU Sens. II. Ed. Seuil. 1983. p. 67 –90. </STRONG> 14.رولان بارث "مبادئ في علم الدلالة" ترجمة محمد البكري. تونس. ص: 135 | |
|
djamele7892 إدارة المنتدى
الجنس : السٌّمعَة : 28 الْمَشِارَكِات : 9188 النقاط/ : 10349 العـمــر : 34 الدولة : المتصفح :
| موضوع: رد: المرسلة الشعرية: من اعتباطية العلامة اللغوية إلى الأيقونة السبت مارس 05, 2011 12:06 am | |
| | |
|