بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله
، أمــا بعد:
فقد قال الأصمعي في: (طريق الشعر إذا أدخلته في باب الخير لانَ، ألا ترى
حسان بن ثابت كان علا في الجاهلية والإسلام فلما دخل شعره في باب الخير من
مراثي النبي صلى الله عليه وسلم وحمزة وجعفر رضوان الله عليهم وغيرهم لان
شعره ،وطريق الشعر هو طريق الفحول مثل امرئ القيس وزهير والنابغة من صفات
الديار والرحل والهجاء والمديح والتشبيب والنساء وصفة الخمر والخيل
والحروب والافتخار فإذا أدخلته في باب الخير لانَ).
ولعل الصدى الذي حظيت به هذه المقولة بسبب قائلها الأصمعي ، جامع الأخبار
و الأشعار و النوادر ، حيث جاب البوادي وأخذ عن الأعراب ، فتكونت لديه
ملكة لغوية وحسا ناقدا .
فسوء الفهم لمقولة الأصمعي فتحت أبوابا عديدة للتأويلات ،و حملت المقولة
معان لاتحتملها،لأن الناظر المتفحص للعصر الإسلامي وظروفه يدحض تلك الآراء
الشاذة وينبذها .
وإذا أمعنا النظر في المقولة يظهر لنا عدد من التساؤلات ،فهل باب الخير
الذي يعنيه الرثاء فقط؟ هل مقصوده باللين الضعف الفني؟،و هل مقارنته
الرثاء بالفخر و المديح والهجاء منطقية ؟
فالرثاء فن عرفه العرب وتغنوا به ، في رثاء أبطالهم وأحبائهم ، وذكر
خصالهم ،وحميد صفاتهم، وقد كانت الخنساء من أهم الذين قالوا في هذا الغرض
في الجاهلية بل ولم يقل أحد بضعف ولين شعرها فنيا ،بل إنها جمعت بين
الإبداع و جودة الشعر ،وعدها محمد بن سلام الجمحي الثانية بين أصحاب
المراثي بعد متمم بن نويرة وطبقة هؤلاء تلي في تصنيفه الطبقات العشر
الأولى (1)، بل إن النابغة كاد يفضلها عندما قال لها لولا أن أبا بصير
أنشدني لقلت : أنك أشعر الناس.(2)
ذكر الجاحظ: (أنه قيل لإعرابي: ما بال المراثي أجود أشعاركم؟ قال: لأنا
نقول وأكبادنا تحترق)(3) فالمرثية لينة في ألفاظها رقيقة في مشاعرها ،
تنزف أسى وحزنا ،وجوّها رقيق، يفيض بالمشاعر الجياشة ،وهذا هو ما يقتضيه
مقامها. ولم يقل نقاد ذلك العصر بضعف شعر الخنساء من ناحية الألفاظ و
التراكيب و المعاني، والجودة وحسن السبك.إذن فالإكثار من الرثاء لايعني
شعرا لينا في مستواه الفني .بقدر ما هو لين في رقة الشعور وشفافيته في
التعبير عن تلك العواطف الجياشة.
أما الأغراض الأخرى كالفخر و المديح والهجاء فكانت طبيعة الحياة الجاهلية
قائمة على الصراع وسيطرة مبدأ القوة وكثرة الحروب وخوف الإنسان من
المفاجآت الناتجة عن الغارات المباغتة ، و الرغبة المتجددة في إثبات الذات
، ذات الفرد وذات الجماعة، وحث المجتمع المستمر أبناءه لإثبات تفوقهم ،
فرسانا وشعراء وشجعانا، وأجوادا، فانبرت الألسنة في الفخر بالقبيلة و
وبالأنساب ، وبالانتصارات في المعارك ،وأخذوا في وصف فروسيتهم، وخيولهم ،
وشجاعتهم وإقدامهم في ساحات الوغى،وجلدهم في الكر و الفر وعفتهم عن
المغانم ،وصبرهم عند وقوفهم على الأطلال، وتجلدهم عند تذكرهم للأحبة في
تلك الحياة المضطربة.
ولم تكن وسيلة الدفاع عن النفس وعن القبيلة ، ودرء المخاطر عنها مقتصرة
على سيوف الشجعان ،ورماح الأبطال، بل للشعر صولات وجولات، عرفها العرب ،
وتباروا فيها، فكان الشعر ديوانهم الذي ملؤه بتفاصيل فخرهم ووصفهم وغزلهم
وهجائهم وتسجيل مآثرهم،يقول الدكتور طه أحمد إبراهيم : (وكأن الشعر في رأي
الأصمعي صدى للحياة الاجتماعية، والحياة الاجتماعية قبل الإسلام كانت
نكدة، كانت ملأى بالمنازعات و المفاخرات العصبية و الحروب، وكل تلك دوافع
للشعر، وكل تلك تحث عليه،وتزيده حماسة وقوة والتهابا)(4)
فهذه المقامات تقتضي قوة الألفاظ وجزالتها بما يتناسب والحماس الذي يصاحب
الشاعر عند فخره أو مدحه ،فالشاعر ابن بيئته ،ومن الطبيعي أن يكون أدبه
متأثرا بتلك البيئة. فكانت تلك الظروف تحمل الشعراء على المبالغات الكاذبة
و المهاترات التي تخرج عن حدود المعقول في الشعر ، كقول عمرو ابن كلثوم في
معلقته:
إذا بلغ الفطام لنا رضيع تخر له الجبابر ساجدينا (5)
إذن فوضع الرثاء موضع المقارنة مع الأغراض السابقة لايعطي رؤية واضحة
للأمر ، فلكل مقام مقال، ولكل وضع إنساني أو اجتماعي ما يقتضيه من مجالات
القول بحسب الحالة النفسية و الظروف المحيطة بالأديب.
إن ظهور الإسلام كان أكبر منعطف تاريخي يمر على أمة العرب، فانبهرت
بالكتاب المنزل، وأكبت على تدارسه ،فانشغلوا بالنظر فيه، و الاهتمام به،
فهو المعجزة البيانية التي أذهلت بلغاءهم المتميزين فكيف بمن سواهم، ،من
إن العرب انشغلوا عن النظم بالقرآن ،إلا أن الشواهد ترد هذا الزعم ، فنجد
الكثير من القصائد من حسان وغيره ، ولعل عدم التدوين كان سببا في ضياع
الكثير من الشعر.
ولاتقتصر أبواب الخير على الرثاء فقط فمدح النبي والدفاع عن العقيدة
الإسلامية، وحث المسلمين على التمسك بعرى الدين و الدفاع عنه كلها من
أبواب الخير التي برع فيها حسان .
فكان لتلك النقلة الحضارية في جميع جوانب الحياة دور في تهذيب
النفوس،وتقويم السلوك ، وفق الكتاب و السنة ، فازداد شعور الفرد بمسؤليته
تجاه أقواله وأفعاله، وكان صحابة رسول اللـه خير مطبق لهذه الشريعة
الغراء، وأخذوا ينشرون هذا الدين الجديد ، ويدافعون عنه ، ليس بأسلحتهم
فقط بل كان للشعر دور لاينكره عاقل ،فرسول الله لما رأى منهم امتناعهم عن
الشعر قال : ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه
بلسانهم ، فقال حسان بن ثابت الأنصاري: أنا لها وأخذ بطرف لسانه،وقال و
الله ما يسرني به مقول بين بصرى وصنعاء.(6)، يقول الدكتور طه أحمد إبراهيم
(كانت قريش تجزع كل الجزع من هجاء حسان)(7)، وذلك لبراعته في خوض المعاني
وحسن تصرفه في هذا الفن .
فأخذ حسان يصب جام هجائه على المشركين، ولم يكن حسان ليحظى بشرف المنافحة
عن رسول اللـه والعقيدة الإسلامية ، إلا لتمكنه من أدواته الفنية
ومقدرته على القيام بالمهمة ، وروح القدس معه.فقال أجود قصائده من مثل
قوله في مدح رسول الله :
إنّ الذوائِبَ مـن فهرٍ وإخـوتـهِم ..... قــد بيّـنوا سُــنّةً للنـاسِ تُتـّبـَعُ
يرضى بها كلّ مَن كانت سريرتـهُ ..... تقوى الإله وبالأمر الذي شرعـــــوا
قــومٌ إذا حاربوا ضــرّوا عـدّوَهُـمُ ..... أو حاولوا النفعَ في أشياعِهِم نفعوا
سجيةٌ تِـلْكَ مِنهُم غيرُ مُـحدَثَـةٍ .....إنّ الخـلائقَ فاعلـم شـرّها الـبِدَعُ
أكـرم بـقومٍ رسـول الله قائـدهم ....... إذا تفرّقـت الأهواء والشّيـعُ
فإنّهم أفضل الأحـياء كــلّهم ............. إن جدّ بالناس جدّ القول أو سمعوا(8)
وكانت هذه القصيدة من روائع شعره، ومن خلالها نلحظ الطابع الإسلامي، وتهذب
صاحبها بعرى الدين القويم ،فلا نرى فيها هشاشة أو ضعفا ، بل كانت مؤدية
لمعانيها في أجود لفظ ،وأحسن ما تكون الصياغة.
فحسان لم يخرج عن طريقة الأوائل في شعره ، فهذه النفس تميل إلى رقة
العاطفة وتحكيم العقل الذي أمر به الإسلام حتى في أحلك الظروف ، و الرضا و
التسليم لقضاء الله وقدره، ومراقبة النطق ، و السيطرة على اللسان وصونه عن
الزلل، و الوقوع في الآثام في جميع أنواع الكلام ، فكيف بالشعر الذي
تتلقفه الأذواق ، وتستمع إليه القلوب قبل الآذان ويتداوله الناس عبر
العصور ، فتهذبت لذلك المعاني ،وتخلصت من التجني على الآخرين وإطلاق
الأحكام على عواهنها ،و الفحش في القول ،وتأدبت بأدب النبوة، و الاقتداء
بصفوة الخلق رسول الله ، قال الله
وإنك لعلى خلق عظيم))(9).
ولعل رأي الأصمعي كان ناشئا عن مقارنتة بين شعر حسان في الجاهلية و
الإسلام مع أنه ينبغي أن نفرق بين الشخصيتين ، و النقلة النوعية التي
أحدثها الإسلام ليس في شخصية حسان فحسب بل في العرب جميعهم في تلك الفترة،
و التربية الجديدة التي أخذت تصقل شخصياتهم وتسمو بها .
إذن فقد نجح حسان في مهمته فنيا وبجدارة رغم تقيده بتعاليم الدين ،بل زادت
قريحته ونمت لغته وتطورت بمعرفة تلك المفردات الجديدة التي اطلع العرب
عليها بعد ظهور الإسلام وأصبحت متداولة بينهم ،يقول أبو الحسن الندوي :
(أما قصائده في مدح الرسول فهي ممتازة بالروعة و الإجادة وبدقة الوصف
رغم تقيده بالإطار الإسلامي للشعر، وهناك فرق كبير بين أن يقول الشاعر ما
يقوله بدون تقيد بإطار ، فإذا لم تضمحل جودته مع التقيد كان أبل وأبرع ممن
يجيد وهو حر وغيره متقيد ، ويدل على ذلك أنه هجا قريشا ولم يصب هذا الهجا
ابن قريش العظيم محمد بن عبدالله الهاشمي القرشي)(10)
وهنا تتجلى عبقرية هذا الشاعر المسلم الذي استطاع أن يطوع ملكاته وموهبته
الشعرية لخدمة الرسالة الإسلامية ، و استغلال مهاراته وطاقاته لاستثمارها
الاستثمار الأمثل ،ووضعها في المكان الذي يخدم الأمة فالأديب مناضل بلسانه
وقلمه
ولاشك أن مقولة الأصمعي لا تعني سقوط شعر حسان بدليل أن الأصمعي عده من
الفحول في كتابه فحولة الشعراء،عندما سأله تلميذه أبو حاتم السجستاني بقوله
قلت :فحسان بن ثابت ، قال :فحل)(11).
الهوامش:
(1) طبقات فحول الشعراء محمد بن سلام الجمحي ص 54، تحقيق محمد محمود شاكر،دار المدني جدة
(2) الشعر و الشعراء لابن قتيبة، ص 344، ج1، تحقيق محمد محمود شاكر، دار المعارف القاهرة ،1419
(3) البيان والتبيين للجاحظ ص 320،ج2، تحقيق عبد السلان هارون، دار الجيل بيروت
(4) تاريخ النقد الأدبي عند العرب من القرن الثاني إلى الرابع، د/ طه أحمد إبراهيم ص 69، القاهرة 1937.
(5) ديوان عمرو بن كلثوم ص91، تحقيق أميل بديع يعقوب، دار الكتاب العربي ، بيروت 1416.
(6) الأدب الإسلامي وصلته بالحياة لأبي الحسن الندوي ص 76، ط1 ، مؤسسة الرسالة،بيروت 1405 .
(7) تاريخ النقد الأدبي عند العرب من القرن الثاني إلى الرابع، د/ طه أحمد إبراهيم ص، 31، القاهرة 1937
(8) ديوان حسان بن ثابت الأنصاري ص 102، تحقيق وليد عرفات،طبعة أمناء جب التذكارية لندن، 1971
(9) سورة القلم ، آية 4.
(10) الأدب الإسلامي وصلته بالحياة لأبي الحسن الندوي، ص 84 ، ط1 ، مؤسسة الرسالة،بيروت 1405.
(11) فحولة الشعراء للأصمعي ،ص 1، تحقيق ش. توري، دار الكتاب الجديد ط1، 1971