لعل
أخطر وأشنع صنوف القمع والإهانة والإبادة الجماعية التي مارستها الدول
الاستعمارية في المغرب العربي هي إقامة معسكرات الاعتقال أو المحتشدات
الجماعية التي أقامتها السلطة الاستعمارية الإيطالية في ليبيا والفرنسية
في الجزائر، وهي تمثل آخر مراحل التصعيد في مسلسل القمع الاستعماري، لا
بهدف إنهاء حركة المقاومة الوطنية المسلحة ضد الاحتلال، بل وأيضاً كأسلوب
من أساليب الإبادة الجماعية، وتفريغ البلدين من سكانهما الأصليين وإحلال
إيطاليين وفرنسيين محلهما.
فبعد فشـل كل أساليب القمع
الاستعمارية من قتل جماعي ونفي خارج الحدود ومصادرة للأراضي الزراعيـة
والممتلكات الثابتة والمنقـولة، وتدميـر للبيوت وقتـل للحيوانـات أو
مصادرتها، وقفل للحدود ومراقبة تهريب الأسلحـة إلى المجاهدين ، لجأت
السلطـة الاستعمارية في ليبيا لإسكات آخـر معاقل المقاومة في الجبل الأخضر
خـلال أعوام 1930 – 1934، إلى إقامة معسكرات اعتقال جماعية لسكان منطقة
البطنان والجبل الأخضر، والتي استمـر وجودها، رغـم انتهاء المقاومـة
المسلحة في نهاية 1931، حتـى عام 1934. وقد روعي في إنشائها اختيار
المناطق النائية المقفرة المعزولة عن أي عمران أو تجمعات سكانية، بإقامة
فضاء جغرافي واسع يحقق عزلاً مادياً يصعب معه الاتصال بين المعتقلين
والمجاهدين المقاتلين في ساحة الحرب في الجبل الأخضر من جهة، وبين القبائل
المعتقلة فيما بينها، أو فيما بينها وسكان المناطق الخاضعة لسلطات
الاحتلال من جهة أخرى، حيث أقيم كل معسكر في منطقة معزولة ، وعلى مسافة
بعيدة جداً عن المعسكر الآخر، علاوة على الإجراءات الأمنية المشددة التي
أنتجتها سلطات الاحتلال لحراسة المعتقلات ومراقبة المناطق المقامة عليها
والطرق المؤدية إليها، وإنزال أشد العقوبات، وهي الإعدام، في حق كل من
يحاول الفرار، وتشمل العقوبات أفراد أسرته أيضاً.
كما
لجأت هذه السلطات إلى التهجير القسرى لسكان الريف والقرى والنجوع المسالمة
أو الواقعة في المناطق المحتلة، وتجميعهم في معسكرات أو تجمعات تحيط بها
الأسلاك الشائكة ، وفي مناطق قريبة جداً من المراكز العسكرية الإيطالية.
والدخول إليها والخروج منها يتم وفق تصاريح رسمية ، أي أنهم خُضُّعوا
لمراقبة يومية دقيقة؛ وذلك حتى لا يتم أي اتصال بين سكان هذه التجمعات
السكانية وبين المجاهدين الذين إعتادوا على تسقط أخبار العدو واستلام
المعونات والمساعدات المهربة من سكان المدن والأرياف عن طريق هذه الجماعات
المتنقلة وفق سياقات لم تستطع كل الإجراءات البوليسية الإيطالية اختراقها
ووقفها. وقد تمَّ حشر حوالي مائة ألف نسمة في معسكرات الاعتقال الجماعية
الإيطالية في العقيلة والبريقة وسلوق والأبيار والمقرون وترينة استشهد
منهم حوالي النصف خلال سنوات الاعتقال التي امتدت في بعض هذه المعسكرات
إلى حوالي خمس سنوات.
وقد
شهدت الجزائر بروز مثل هذه الظاهرة أيضاً على أيدي سلطات القمع الاستعماري
الفرنسية . فمنذ بداية الغزو الفرنسي للجزائر عام 1830، اتسمت السياسة
الاستعمارية الفرنسية بالوحشية والقساوة المفرطة. وسجل الاستعمار الفرنسي
في الجزائر ملئ بالشواهد والوقائع والجرائم ضد الشعب الجزائري في هذا
الشأن، والتي ترقي إلى جرائم ضد الإنسانية خلال كل مراحل الاستعمار
الفرنسي في الجزائر . جرائم كانت تمارس بشراسة ووحشية وبوسائل تقليدية
وأخرى غير تقليدية، مع ابتكار أساليب تعذيب جهنمية متطورة راح ضحيتها آلاف
الجزائريين في السجون والمحتشدات التي بلغت المئات تزامناً مع اشتداد
الثورة واتساع نطاق عملياتها العسكرية ضد الجيش والمصالح الاستعمارية، حيث
تحولت الحرب من المنظور الاستعماري إلى حرب إبادة شاملة تستهدف القضاء لا
على جيش التحرير والمجاهدين الجزائريين فحسب، بل امتدت وفق آليات القمع
والتعذيب التي انتهجتها السلطة الاستعمارية الفرنسية إلى القضاء على
المدنيين العزل أنفسهم.
إن إستراتيجية حرب الإبادة في المنظور الاستعماري هي وحدها الكفيلة
بالقضاء على مقاومة الشعب، وإضعاف قدراته القتالية والنضالية، وبت روح
الخوف واليأس والهزيمة في صفوف فئاته.
ومعسكرات الاعتقال أو المحتشدات
الجماعية التي أمامها السلطات الفرنسية في الجزائر ما هي إلا وسيلة أو
آلية من آليات القمع المتعددة ضد الجزائريين، وخاصة إبان مرحلة حرب
التحرير الجزائرية ( 1954 – 1962)، حيث اعتبرت هذه السلطات كل جزائري يمثل
نشاطه خطراً على الأمن العام والنظام ما يستوجب اتخاذ أي إجراء ضده ينهي
نشاطه حتى وإن كان ذلك الإجراء التصفية الجسدية. ووفقاً لقانون الطوارئ
فإن من حق من كل وزير الداخلية الفرنسي والحاكم العـام في الجزائـر أن
ينفي أي منهما، والي أي منطقة أو مكان يحدده، كل شخص يصنف نشاطه خطراً على
الأمن والنظام العام.
وهكذا،
أقامت فرنسا في أماكـن مختلفة من التراب الجزائـري آلافاً من المحتشـدات
أو المنافي حشر فيها عدداً لا يحصى من الجزائريين من مختلف الأعمار أصحاء
ومرضى أطفال وشيوخ نساء ورجال ؛ وبدون مراعاة لعامل السن أو الجنس أو
الوضع الصحي، الجميع كانوا يعاملون معاملة وحشية لا مثيل لها من جميع
النواحي، وذلك بهدف قطع الاتصال نهائياً بين الشعب وجيش التحرير، وقتل
المبادئ الثورية، وخلق روح اليأس والهزيمة في نفوس أفراده بمفعول الحصار
وتجفيف كل مصادر الإعانة عنه.
وإذا
كانت المعتقلات الفاشستية في ليبيا قد أسهمت في القضاء على حركة المقاومة
بحرمان المجاهدين من الموارد البشرية والمادية التي كانت تعطيهم مقومات
الاستمرار ، فإن السجون والمعتقلات أو المحتشدات التي أقامتها فرنسا في
مناطق متعددة متفرقة في الجزائر، وضمت أكثر من مليوني معتقل، رغم قساوة
التعذيب والانتهاكات الفرنسية البشعة لحقوق الإنسان ضد المساجين وضحايا
المحتشدات ومراكز التحقيق أو الاستنطاق، والتي أدت إلى استشهاد أعداد
كبيرة جداً لا تحصى من الجزائريين نتيجة سوء الأوضاع القائمة في تلك
المحتشدات وقساوة التعذيب في مراكز التحقيق، إلا إنها لم تحقق ما كان
يصبوا إليه الإستراتيجيون الفرنسيون، وهي الحد من الانتصارات المتعاظمة
للثورة الجزائرية، ووقف مصدر المدد والطاقة التي يقاتل بها جيش التحرير
بفرض حصار فعلي قوي على سكان الأرياف يعزل هذا الجيش الشعبي عن عمقه
الإستراتيجي – القاعدة الشعبية التي ظلت طوال تاريخها المصدر الذي أعطى كل
حركات المقاومة عناصر شرعية الوجود والاستمرارية والدعم المادي والمعنوي.
فكانت النتائج النهائية لهذه الإجراءات القمعية في السجون ومراكز التحقيق
والتعذيب والمحتشدات هي لصالح الثورة، وأسهمت في نشرها من الأرياف والجبال
إلى المدن، وهزت مكانة فرنسا الدولية، وتزايد التأييد العربي والإسلامي ،
بل والعالمي للثورة الجزائرية، وعززت عند الجزائريين في هذه المناطق، وقد
خالطوا المجاهدين وسمعوا عن بطولاتهم وتضحياتهم في سبيل القضية الوطنية،
قضية كل الجزائريين، شعور الانتماء للثورة، ونَمّت في داخلهم فكرة الجهاد
والحرية والاستقلال. كما أن سكان أو أسر المحتشدات، وقد أصبحوا في وضع
أفضل من حيث الاطلاع على حقيقة ما كان يجرى حولهم؛ حيث أن أخبار الحملات
العسكرية الفرنسية التي تنطلق من الثكنات المحيطة بالمحتشدات لمهاجمة
المجاهدين في الجبال رفقة رجال القومية عند عودتهم من حملاتهم يعرف
المعتقلون عن طريقهم عدد القتلى والجرحى والخسائر المادية في صفوف جنود
الاحتلال وعملائهم ما يجعلهم يشعرون بشيء من الفرح، وبما يعزيهم عن وضعهم
الصعب، ويقوي عزائمهم وإيمانهم المطلق بقضية بلادهم العادلة، ويعزز فيهم
الأمل بالنصر القريب الذي وعد الله به عباده المؤمنين الصابرين.
وهذه
الورقة تناقش أسس ومنطلقات السياسات الإيطالية والفرنسية في إقامة
المعتقلات أو المحتشدات الجماعية والأساليب القمعية المتبعة في إدارة هذه
المؤسسات العقابية وتأثيراتها الاجتماعية والسياسية لا على المعتقلين
فحسب، بل وعلى حركات المقاومة المسلحة وعلى العلاقة بين القاعدة الشعبية
والسلطة الاستعمارية، ونجاح الأولى في إفشال المخططات الاستعمارية؛ حيث
نهض الشعب في البوادي والريف والمدن على حد سواء ، وقد اكتشف قوته، ينظم
المظاهرات التي امدت الثورة بأنفاس جديدة حطمت كل المناورات الاستعمارية،
وكشفت الألاعيب والدعايات الفرنسية المضللة التي تصف الثورة الجزائرية
بأنها عبارة عن تمرد عصابات خارجة عن القانون سيقضي عليها وإعادة الأمور
إلى نصابها وإبقاء الجزائر في إطار الإمبراطورية الفرنسية كجزء من فرنسا .
إن تلك المظاهرات الجزائرية الحاشدة والنجاحات العسكرية لمجاهدي جيش جبه
التحرير على أرض الواقع ، كشف عن المطالب الحقيقية للشعب الجزائري في
الحرية الاستقلال، وَمَكَّنَتْ الثورة من الحصول على الدعم الدولي
المتزايد، والزحف بالتالي بقوة وثقة واطمئنان نحو الانتصار العظيم الذي
تحقق بإعلان استقلال الجزائر في 5 يوليه 1962 ، وخروج فرنسا منها بعد
استعمار دام 132 عاماً.