حين لا يكون أمام الشعوب العربية إلا أن تحرق نفسها لتعبر عن كرهها لحاكمها، فإن
ذلك ينبئ في المقابل عن سوء خاتمة سوف يحترق بنارها الحاكمون أيضا، وإذا كانت
العلاقة الحقيقية بين الشعوب العربية علاقة كره وسخط، فإن على الحكام أن يخترعوا
مقياسا لنبض الحب الصحيح في قلوب الناس، حتى لا ينخدعوا ويفهموا متأخرين،
ولات حين مندم، ولم يعد الأمر خافيا على كل ذي عقل، إذ ان الشعوب العربية لم تعد
قادرة على احتمال مزيد من القهر والظلم والفساد، بل لم يعد لديها ما تخسره، وهذا
البوعزيزي خير مثال، حين لم يقبلوه بائعا على بسطة خضار بعد حصوله على الشهادة
الجامعية، وفي الدول العربية ملايين البوعزيزي الذين أوصلتهم سياسات الفساد
والاستحواذ والاستبعاد إلى طريق مسدود.
والشعوب العربية لن تقبل بعد كل ذلك إلا أن تخلع حاكمها وطغمته الفاسدة، تخلعه
بنشوة عظيمة، وبنصر مظفر، وتحتفل بعد ذلك لأنها تخلصت من احتلال جاثم على
صدرها، ولا تنتظر العواقب مهما كان شكلها، أليست تلك حالة تستحق الملاحظة
والدرس والبحث؟ أليست ثورات الشوارع حالة رائعة مشرقة قد تغري الشعوب وتحقق
أحلام المقموعين؟ بلى إنها كذلك، فقد تحولت ثورة تونس بعبقها الفواح إلى فصل ربيع
يعج بأريج الياسمين، وسينتقل شذاها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وإذا حصل ذلك فلن
يكون أمام حكامنا الملهمين إلا الفرار بلا مأوى ولا نصير ولا حليف قديم.
ولا أريد هنا أن أشير إلى مصير زين العابدين بن علي، فتلك حكاية قديمة، لكن
المستقبل القريب والأقرب والبعيد والأبعد ـ حسب ترتيب الدول العربية ـ سوف يعطينا
أمثلة لا حصر لها، ربما تختلف السيناريوهات الدرامية بحسب البيئة والجغرافيا
والتاريخ، لكنها كلها مشاهد دراماتيكية سيكون لها ممثلوها وأبطالها وضحاياها
وتسمياتها، وفق الورود والأزهار الوطنية، ولن تعدم الشعوب طريقة في الوصول إلى
ما تريد حتى لو كان الثمن غاليا، فالجماهير لا تخاف، على خلاف الأحزاب والنخب
السياسية، التي فتت في عضدها دوائر الأمن العربية قهرا وسجنا وإبعادا ونفيا وترويعا
وترهيبا وترغيبا، فالشعوب لا تعرف سوى التقدم نحو مستقبلها بكل جرأة وثقة، حتى
وإن كانت حركتها بطيئة، وغير متوقعة، ولن يجدي معها تحليلات السياسيين ولا
نظريات الاجتماعيين وتوقعات الاقتصاديين، فمن كان يصدق أن الشعب التونسي
سيخرج بهذا الشكل، مع أن الشرطة تراقب حتى الأنفاس وتحس دق النبضات
والخلجات، وتكشف عن النوايا والغايات، لكن كل ذلك انهار بلحظة غضب جماهيري لا
يعرف التسويات والحوارات والمؤتمرات. أعتقد أن الحديث عن الإصلاح والديمقراطية
وبرامج التنمية في الدول العربية لم تعد تجدي نفعا في تسكيت الأفواه الجائعة والبطون
الفارغة، فلقد اكتشفت الجماهير العربية أن كل الخطط السياسية والاقتصادية ما هي إلا
حبر على ورق ومشاريع في الهواء ينتفع بها الحاكم وطغمه الفاسدة، والشعب يزداد
فقرا على فقر وهما على هم، لكن ذلك لا يدوم وإن سكت الناس عدة سنوات، فالمد
الشعبي قادم لا محالة، والتاريخ شاهد على ذلك، فالأوطان والشعوب باقية والحكام
والفاسدون زائلون.
إن استئثار الحاكم بالحكم وتهميش الآخرين، واتخاذ البطانة الفاسدة، وجعل الأمور كلها
في يده، يتكرم على من يشاء ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء ويحكم ولا حكم إلا له،
فهو يمنّ على الشعب بالعطايا والهبات والمكارم والمكرمات، فالتعليم مكرمة والعلاج
مكرمة والعيش مكرمة، يقبضها بين يديه ويمنحها لمن حواليه. أليست تلك حالة انتحار
اجتماعي تحول الناس إلى متسولين ومهزومين ومستجدين؟ وهذا أيضا لن يجدي، لأن
الذين يأكلون خبزهم مجبولا بالذل والقهر سوف يزداد جوعهم وتقرصهم معداتهم
للمزيد، ولن يكون أمامهم إلا قطع اليد التي احتالت على متعة الكد والعمل والعيش
الكريم، فأعطتهم بلا مقابل، ولكن من أجل شراء ضمائرهم وذممهم، والشعوب
بمجموعها لا تُشترى ولا تُباع، حتى لو وجدنا بعض الناس كذلك، ولن يكون أمام ثورة
الجياع إلا الوصول إلا القصور المتخمة بالدهن والملذات والشهوات، فالقصور هدف
الجياع الذين سامهم الفقر والظلم سوء العذاب، وفتكت بهم وبأرزاقهم طغم الفساد.
لن يكون أمام الشعوب العربية إلا النزول إلى الشوارع والاحتراق بكل النيران،
والاشتعال والإشعال مطالبين بحريتهم وعيشهم الكريم. فكم مواطنا عربيا سيحرق
نفسه؟ وكم حاكما عربيا عندئذ سينال لقب 'مخلوع'؟
' كاتب أردني