كانت الفتنة الكبرى التي استشهد فيها الخليفة الثالث "عثمان بن عفان" رضي الله عنه من أخطر الأزمات التي تعرض لها المجتمع الإسلامي آنذاك، فقد كان مما تمخض عن هذه الفتنة نشوء ثلاث فرق إسلامية هي: الخوارج: وهم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه في قضية التحكيم، والشيعة: وهم الذين شايعوا سيدنا علي رضي الله عنه، ثم المرجئة: وقيل في سبب تسميتهم بهذا الاسم إنهم قدموا القول وأَخَّروا العمل.
وكان من الجدل الديني والسياسي الذي دار بين هذه الفرق- بالإضافة إلى فرق المعتزلة التي ظهرت خلال النصف الأول من القرن الثاني للهجرة، وفرقة الأشعرية التي نشأت خلال القرن الثالث - من الجدل الذي دار بين هذه الفرق أن نشأ ميدان أساسي من ميادين الفكر الإسلامي، وهو الذي أطلق عليه فيما بعد "علم الكلام".
وقد كان ظهور هذه الفرق وخاصة المعتزلة عاملا له أهميته في ظهور ميدان جديد للفكر الإسلامي هو "ميدان الفلسفة" بمعناها الخاص أو التقليدي، والتي قد تسمى بالفلسفة المدرسية أو المشَّائية، وتتمثل في ذلك النتاج الفكري الذي خلفه لنا فلاسفة الإسلام مثل: الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن طفيل وابن باجة.
وبالإضافة إلى دور الفرق الكلامية - لاسيما المعتزلة - في التمهيد لنشأة هذا المجال من مجالات الفكر الإسلامي، أسهمت كذلك في نشأته حركة الترجمة التي نشطت بشكل مباشر في القرن الثاني الهجري على أيدي العباسيين، وبخاصة كبار خلفائهم الثلاثة الأُوَل: المنصور (158هـ)، والرشيد (193هـ)، والمأمون (218هـ). (انظر: إبراهيم مدكور، في الفلسفة الإسلامية، ج2، ص77 ، 78 ، ومدخل إلى الفلسفة، العجمي والحجر، ص109، 110).
فقد شرع المسلمون في ترجمة الكثير من كتب اليونان والفرس والهنود وغيرهم إلى العربية، وعلينا أن نوضح في هذا المقام أنه لا يقلل من قيمة الحضارة الإسلامية مطلقا أنها أقامت بنيانها في بعض المجالات - كالفلسفة والعلوم التجريبية أو العقلية على أسس غير إسلامية، من معارف السابقين ذميين كانوا أو وثنيين؛ ذلك أن ارتقاء الحضارة البشرية يقوم على مبدأ استفادة الخلف من جهود السلف، وبفضل ذلك ارتفع صرح الحضارة البرية طبقة بعد أخرى، ولو التزم كل جيل بأن يبدأ المسيرة الحضارية من نقطة الصفر، معرضا عما توصل إليه السابقون من إنجازات، لما نزل الإنسان في القرن العشرين على سطح القمر، ولوجدنا أنفسنا اليوم نشعل النار عن طريق قدح حجرين بعضهما ببعض، أسوة بما فعل الإنسان الأول، ولكن عظمة الحضارة الإسلامية تنبع من أن دورها لم يقتصر على النقل عن السابقين، وإنما تعدى ذلك إلى التصحيح والربط والتوفيق، ثم الابتكار والخلق والإبداع والإضافة.
ثم إن بناة الحضارة الإسلامية لم يفعلوا كما فعل رجال الكنيسة والأديرة من إحراق كتب الوثنيين وهدم معابدهم ونبذ تراثهم، دون تفرقة بين الصالح منه وغير الصالح, وإنما احترم علماء المسلمين ما خلَّفه السابقون- وثنيين كانوا أو ذميين- من تراث، وأشادوا بعلمائهم واعترفوا بفضل أولي الفضل منهم، دون تعصب لدين أو لمذهب، ودون اعتبار لجنس أو ملة، فالعلم النافع في نظرهم يأتي فوق كافة الاعتبارات العقائدية أو العنصرية. (موقع: "إسلام ست").
إذن ففي بيئتي الترجمة والمتكلمين نشأت المدرسة الفلسفية الإسلامية في القرن الثالث للهجرة، وكان الكندي (252هـ) أول فيلسوف عربي مسلم معتزليا وفيلسوفا في آن واحد، كما كان له دوره البارز في حركة الترجمة.
وقد شهد هذا القرن (القرن الثالث للهجرة) كذلك اكتمال ميدان آخر من ميادين الفكر الإسلامي هو ميدان "علم التصوف" الذي بدأ من القرن الأول الهجري، نتيجة عوامل معينة، ممثلاً في جماعة من المسلمين جدّوا في السير على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه سلم وصحابته من الزهد في الدنيا والعكوف على الطاعات والقربات.
وهذا الاتجاه في الواقع لم يكن جديدًا على الحياة الإسلامية، وإنما برزت صورته بسبب ما جدّ على حياة المسلمين من ترف وثراء نتيجة لاتساع الدولة الإسلامية وغناها، وسعي الكثيرين منهم إلى التمتع بطيبات الحياة، بل ووقوع البعض أسرى لزينة الحياة الدنيا.
وإذا كان التصوف قد اتسم بالبساطة وغلبة النزعة العملية لدى الحسن البصري وغيره من أوائل الصوفية، فإنه قد اتجه في القرن الثالث إلى بناء فلسفة روحية تتناول الكشف عن أحوال النفس من خوف ورجاء وحب وجد ونحوها، ويقوم على الذوق والعرفان طريقًا إلى المعرفة كما اتضح ذلك عند أمثال المحاسبي 242هـ وذي النون المصري 244هـ والبسطامي 260هـ وغيرهم، هذا ويضيف البعض إلى هذه الميادين ميدانًا آخر هو "أصول الفقه" الذي بدأ التدوين والتأليف فيه كعلم مستقل بذاته منذ عهد الإمام الشافعي (توفي سنة 204 هـ).
ولم تكن هذه الظروف التي عرضنا لها بالإجمال هي وحدها التي فتحت الطريق لقيام فلسفة إسلامية، فقد كان القرآن الكريم قبل كل هذه العوامل سببًا رئيسيًا في توجيه المسلمين نحو بناء فكر فلسفي بالمعنى العام لهذه الكلمة، فالقرآن الكريم قد تناول قضايا تعتبرها الفلسفة من صميم موضوعاتها، فعرض قضية الألوهية في صورتها النهائية، وقدم الحقائق النهائية المتعلقة بالكون والإنسان والمبدأ والمصير والخلق من العدم.
وباختصار فإن القرآن الكريم لم يترك موضوعًا مما شغل به الفكر الإنساني عبر تاريخه الطويل إلا وقد أوضح كل ما يتصل به من حقائق، بالإضافة إلى ما قرره من قواعد لحياة الناس الدينية والأخلاقية.
ففضلاً عن حثه المسلمين على النظر والتدبر في ملكوت السموات والأرض، فقد احتفى القرآن الكريم بالعقل وكرم من يُعمِلُونه في طلب الحق وذم من يعطلونه ولا ينتفعون به، واعتبرهم (كالأنعام بل هم أضل..)، والإعلاء من شأن العقل ـ إلى جانب الحواس ـ كوسيلة لا غنى عنها للمعرفة كل ذلك أحدث أثره في توجيه المسلمين نحو بناء فلسفة إسلامية بالمعنى العام لكلمة فلسفة.
وهكذا نشأ الفكر الفلسفي منطلقًا أصلاً من القرآن الكريم والسنة النبوية، ومتأثرًا بما تعرض له المسلمون الأوائل من خلافات سياسية نتجت عنها انقسامات دينية فَرَّخت طوائف الشيعة والخوارج والمرجئة ثم المعتزلة والأشاعرة على نحو ما أوضحنا من قبل، هذا ولم يكن العامل الخارجي المتمثل في (ترجمة علوم الأوائل( غائبًا عن ميدان التأثير في نشأة هذا الفكر، وانطلاقًا من هذه العوامل اكتمل البناء الفكري، وتحددت معالمه وخصائصه، واتضحت ميادينه.