الحمدلله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد.. ان السحر حقيقة قائمة ، وقد ذكره الله في كتابه وأنه أمر حاصل ، وأنه مما يُتعلم ، وأن له آثاراً تقع به بقدرة الله تعالى وإذنه ومشيئته ، قال تعالى :{وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} (102) سورة البقرة
قال الإمام النووي رحمه الله كما في شرحه على صحيح مسلم :قَالَ الْإِمَام الْمَازِرِيّ رَحِمَهُ اللَّه : مَذْهَب أَهْل السُّنَّة وَجُمْهُور عُلَمَاء الْأُمَّة عَلَى إِثْبَات السِّحْر ، وَأَنَّ لَهُ حَقِيقَة كَحَقِيقَةِ غَيْره مِنْ الْأَشْيَاء الثَّابِتَة ، خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَنَفَى حَقِيقَته.اهـ
حكم الاشتغال بالسحر ، وحكم تعلمه وتعليمه
والسحر من الكبائر الموبقات يعني المهلكات التي تهلك صاحبها وتودي به إلى دركات الهاوية ، لما روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ ) قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ : (الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ )
والسحرحرام بإجماع علماء المسلمين ، ويحرم كذلك تعلمه وتعليمه،
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري : قوله تعالى{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فإن ظاهرها أنهم كفروا بذلك، ولا يكفر بتعليم الشيء إلا وذلك الشيء كفر، وكذا قوله في الآية على لسان الملكين: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} فإن فيه إشارة إلى أن تعلم السحر كفر فيكون العمل به كفرا، وهذا كله واضح على ما قررته من العمل ببعض أنواعه.اهـ
وقال الإمام النووي كما في شرحه على مسلم : وهوحرام باجماع علماء المسلمين وَأَمَّا عَدُّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّحْر مِنْ الْكَبَائِر فَهُوَ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِنَا الصَّحِيح الْمَشْهُور . وَمَذْهَب الْجَمَاهِير أَنَّ السِّحْر حَرَام مِنْ الْكَبَائِر فِعْله وَتَعَلُّمه وَتَعْلِيمه . وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا : إِنَّ تَعَلُّمه لَيْسَ بِحَرَامٍ ، بَلْ يَجُوز لِيُعْرَف وَيُرَدّ عَلَى صَاحِبه وَيُمَيَّز عَنْ الْكَرَامَة لِلْأَوْلِيَاءِ : وَهَذَا الْقَائِلُ يُمْكِنهُ أَنْ يَحْمِل الْحَدِيث عَلَى فِعْل السِّحْر . وَاَللَّه أَعْلَم .
حكم السحرة والكهان والمشعوذين
وأما الساحر الذي يباشر السحر بنفسه فكافر ، ويقام عليه حد القتل من قبل ولي الأمر ما لم يتب .
وقال الحطاب المالكي في مواهب الجليل:ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ السِّحْرَ رِدَّةٌ وَأَنَّهُ يُسْتَتَابُ السَّاحِرُ إذَا أَظْهَرَ ذَلِكَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.اهـ
والكهانة أيضاً حرام ، قال المنذري في الترغيب والترهيب: الكاهن هو الذي يخبر عن بعض المضمرات فيصيب بعضها ويخطىء أكثرها ويزعم أن الجن تخبره بذلك.اهـ
حكم الذهاب إلى السحرة والمشعوذين ، وسؤالهم
وأما إتيان السحرة والمشعوذين والعرَّافين فحرام ،وهو من عمل أهل الجاهلية ، لما روى أبوداود والترمذي وأحمد والحاكم ووصححه على شرط الشيخين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه فيما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) .
وروى البزار بإسناد جيد عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)
وسؤال هؤلاء فضلاً عن كونه حراماً ، فإنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، كما في قوله تعالى: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } [النمل:65] وقوله تعالى: { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسول ) [الجن : 26 - 27]،
فيجب على المسلم أن يدع هذه الأمور الجاهلية ويبتعد عنها، ويحذر من سؤال أهلها أو تصديقهم، طاعة لله ولرسوله، وحفاظاً على دينه وعقيدته.
طرق الوقاية والعلاج من السحر
وقدْ شرعَ اللهُ تعالى لنَا فِي القرآنَ الكريمَ وفِي سنةِ رسولِهِ صلى الله عليه وسلم الوقايةَ منَ السحرِ ، كما شرع العلاج منه إنْ ظهرَتْ علاماتُ تأثيرِهِ ، وفِي الحديثِ أنَّ لبيدَ بنَ الأعصم اليهودي سحرَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حسدًا وحقدًا حتَّى كانَ صلى الله عليه وسلم يشعرُ بثقلِ جسمِهِ ، ولم يكن تسلط السحر عليه صلى الله عليه وسلم في موضع الوحي والبلاغ منه ، إنما كان تأثيره عليه في بعض جوارحه ، حيث كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولا يأتيه ، وكان هذا للتشريع ، وإلا فالله تعالى كان ولا يزال قادراً على عصمته صلى الله عليه وسلم ، فأنزلَ اللهُ عليهِ قلْ أعوذُ بربِّ الفلقِ وقلْ أعوذُ بربِّ الناسِ ، فكانَ يقرأُ بِهمَا وينفثُ علَى جسمِهِ حتَّى ذهبَ ذلكَ عنهُ ، فالقرآنُ شفاءٌ مِنْ كُلِّ مرضٍ وداءٍ، قالَ اللهُ تعالَى
وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً) الإسراء : 82 ،فالقرآنُ شفاءٌ مِنَ السحرِ والعيْنِ والأَدْواءِ .
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ ، وَلاَ تَسْتَطِيعُه الْبَطَلَةُ »رواه مسلم
وأخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه لما أمسك الشيطان الذي جاءه في صورة رجل كبير فقير وهو يسرق من مال الصدقة ، وكان أبوهريرة موكلاً بحفظها فأمسكه وهمَّ أن يسلمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ لأبي هريرة : دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا. قُلْتُ مَا هُوَ؟ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَنْ يَزَالَ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ
ومِنْ طُرقِ الوقايةِ والعلاجِ مِنَ السحرِ الدعاءُ، قَالَ صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ ، فَعَلَيْكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِالدُّعَاءِ»رواه الترمذي
كمَا أنَّ أذكارَ الصباحِ والمساءِ وتحصينَ النفسِ والأهلِ والأبناءِ بالأورادِ حصنٌ حصينٌ مِنَ السحرِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِى صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ : بِسْمِ اللَّهِ الَّذِى لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَىْءٌ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ لم يَضُرُّهُ شَىْءٌ »رواه الترمذي
وكذلك شرع الله لنا العلاج بالرقية الشرعية ، فيضع الراقي يده اليمنى على المحسود ، أو يمسح بيده اليمنى جسد المحسود ويقرأ الراقي الرقية الشرعية عليه ، مثل فاتحة الكتاب وآية الكرسي وسورة الإخلاص والمعوذتين ويدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبق بيانها في الفتوى رقم (703)
حكم التداوي بالسحر
ومِمَّا يجدرُ التنبيهُ عليهِ فِي هذَا المقامِ أنَّهُ لاَ يجوزُ علاجُ السحرِ بمثلِهِ فقدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ »رواه أبوداود
ومما عمت به به البلوى أن ضرر هؤلاء لم يقتصر على منطقة بعينها ولكنه جاوز إلى بلاد العالم عبر القنوات الفضائية وغيرها من وسائل الإعلام، وراح بعضهم يروج لهذه الأفكار الشيطانية ، عبر شاشات التلفاز ،
نصيحتنا إلى السحرة والمشعوذين
ونحن ننصح هؤلاء السحرة والمشعوذين ، ونقول لهم : أنقذوا أنفسكم من عذاب الله ، فلا بد يوماً يأتي يقف فيه الكلُّ بين يدي الله تعالى ، فماذا أنتم قائلون فيما سعيتم فيه من إلحاق الأذى بالمسلمين ، قال الله تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} (58) سورة الأحزاب
نعم ، لا بد من ساعة تأتي ليحاسب فيها الجميع أمام الله ، كما قال تعالى{وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (281) سورة البقرة
نصيحتنا إلى من يذهبون إلى السحرة والمشعوذين
ونصحيتنا أيضاً لكل مسلم يحب الله ورسوله أن يصون نفسه وأسرته وماله عن هؤلاء المنحرفين عن مهج الله تعالى وفطرته ، وألا يكون فريسة لهؤلاء الكذابين فكلنا مؤتمن ومسؤول عما ولاه الله إياه ، وأنَّ الضررَ والنفعَ بيدِ اللهِ سبحانَهُ وتعالَى، وتأكيدًا لهذَا المعنَى قالَ الصادقُ المصدوقُ صلواتُ ربِّي وسلامُهُ عليهِ :« وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ »رواه الترمذي وقال : حسن صحيح.
نصيحتنا لمن يروج للسحر والسحرة
كما ننصح القائمين على مثل هذه القنوات الفضائية ، وغيرها من وسائل الإعلام ، وكذا كل من يروج لهذا الزور ، أن يتقوا الله في المسلمين ، فالكلمة أمانة ، وبيوت المسلمين أمانة ، وأموال المسلمين أمانة ، والله تعالى سائل كلّ عما استرعاه حفظ أم ضيع ، والله تعالى أعلم .
[الخــلاصـة]
مذهب جمهور علماء المسلمين أن السحر حقيقة قائمة ، وهو من الكبائر الموبقات ، وهو حرام بإجماع علماء المسلمين ، ويحرم كذلك تعلمه وتعليمه،والساحر الذي يباشر السحر بنفسه كافر ، ويقام عليه حد القتل من قبل ولي الأمر ما لم يتب بنفسه عند الجمهور، ويحرم إتيان السحرة والدجالين والمشعوذين أو سؤالهم أو دفع المال لهم ، ومن وسائل الوقاية والعلاج من السحر الرقية الشرعية ، وقراءة القرآن خاصة سورة البقرة ، والدعاء ،والأذكار ، كما لا يجوز التداوي بالسحر ،
ونصحيتنا لكل مسلم يحب الله ورسوله أن يصون نفسه وأسرته وماله عن هؤلاء المنحرفين عن مهج الله تعالى وفطرته ، وأنَّ يعلم أن الضررَ والنفعَ بيدِ اللهِ سبحانَهُ وتعالَى، كما ننصح القائمين على وسائل الإعلام ، أن يتقوا الله في المسلمين ، فالكلمة أمانة ، وبيوت المسلمين أمانة ، وأموال المسلمين أمانة ، والله تعالى سائل كلّ عما استرعاه حفظ أم ضيع ، والله تعالى أعلم
أختكم منار