ثانيا: أنماط وأشكال تدخل المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية.
عقب إقرار دستور فبراير 1989 الذي يعد الإطار القانوني و التأسيسي لمسار التحول الديمقراطي عبرت قيادة المؤسسة العسكرية عن دعمها لمسار الإصلاحات السياسية "إن الجيش الوطني الشعبي يحيي في هذه المرحلة من التطور السياسي الإرادة التي عبر عنها المواطنون في 23 فبراير 1989"[15] وجسدت استعدادها لمتطلبات لمرحلة المقبلة بصدور تعليمة رئيس أركان الجيش رقم 51/89/ق.أ/ج.و.ش بتاريخ 04/04/1989 التي أشارت إلى الإلتزامات الجديدة لمؤسسة الجيش التي تفرض حياد أفرادها إزاء العمل السياسي.
لكن من الواضح أن هذا الحياد لم يصمد عند أول امتحان حقيقي، حيث عادت مؤسسة الجيش لتمارس دور الوصاية والتدخل في الشأن السياسي بتوقيف المسار الانتخابي في جانفي 1992 وهو الوضع الذي استمر إلى غاية أفريل 2004 ولكن بصور مختلفة يمكن حصرها في شكلين بارزين:
1- استعمال حق الإعتراض أو النقد (veto) : هذا النمط من تدخل الجيش في الحياة السياسية يسود عموما في حالات عدم الاستقرار السياسي، إذ يتحول الجيش إلى دور المحافظ والحامي للنظام القائم ، ويحدث ذلك في حالات اتساع المشاركة السياسية في مجتمع يفتقر إلى المؤسسات الكفيلة باستيعاب الأعداد الهالة من الجماهير الراغبة في الإنخراط في العمل السياسي "وتدخل الجيش بهذه الصفة يكون في حالتين :الأولى هي انتصار حزب أو حركة سياسية لا ترغب فيها المؤسسة العسكرية، والثانية اتباع السلطة القائمة لسياسات راديكالية أو إذا حاولت السلطة استقطاب جماعات سياسية لا ترغب فيها المؤسسة العسكرية"[16]. هذا النمط من التدخل يتم أيضا حين يحدث ما تراه المؤسسة العسكرية فوضى وأزمة خطيرة تهدد البلاد فتتدخل لإعادة الاستقرار وتهيئة الظروف لإقامة حكومة شرعية، لكن الوعود بالعودة إلى الحياة المدنية قد تتحقق وقد يستمر الجيش في الإحتفاظ بالسلطة، فإما أن ينتهي هذا التدخل بعودة الجيش إلى الثكنات أو بانتقاله إلى نمط آخر هو نمط "الحاكم".
ولعل تدخل الجيش الجزائري لوقف المسار الإنتخابي في جانفي 1992 يعد تجسيدا واضحا لهذا الشكل من أشكال التدخل، حيث أن قيادة المؤسسة العسكرية رأت في قرب حصول حزب سياسي معين على الأغلبية المطلقة لمقاعد البرلمان في أول إنتخابات تشريعية تعددية تهديدا للطابع الجمهوري للدولة والتجربة الديمقراطية الحديثة، فالجيش في نظر أحد قادته خلال تلك الفترة اللواء محمد تواتي "لايمكنه أن يبقى مكتوف الأيدي أمام التهديدات الخطيرة للدولة، فمن واجب الجيش أن يدافع عن مؤسسات الجمهورية في المراحل الانتقالية الخطيرة".[17]
ومن هذا المنطلق تدخلت القيادة العسكرية لتعترض على نتائج الانتخابات وتوقف المسار الذي رأت فيه انحرافا لعملية التحول الديمقراطي عن إتجاهها السليم.
2- اختيار أو تزكية القيادات السياسية : بما أن النمط الأول لتدخل الجيش في الحياة السياسية هو نمط انتقالي، إما أن ينتهي بعودة الجيش إلى الثكنات واستأناف الحياة المدنية في ظل الشرعية، أو استمرار الجيش في التأثير على مسار الأحداث واختيار القيادات. فإن النخبة العسكرية في الجزائر قد اختارت الحل الثاني وهو الاستمرار في ممارسة الوصاية من خلال اختيار وتزكية القيادات السياسية للبلاد، وهو الوضع الذي تجسد من خلال فوز "مرشح الجيش" المتمثل في شخص وزير الدفاع ورئيس الدولة بأول انتخابات رئاسية تعددية في نوفمبر 1995 بدعم وتأييد واضح من الجيش، فهذه الانتخابات حسب "نور الدين زمام" أعطت العسكريين لأول مرة شرعية تمكنهم من قيادة وتسيير المجتمع، أما "نور الدين بوكروح" أحد المرشحين لتلك الانتخابات فيعتقد أن السلطة قد حلت من خلال هذا الاقتراع مشكلا يستحيل حله وهو "تغطية الذهنية الانكشارية بالثوب الديمقراطي، فالكل كان يعرف بأن الجيش جمهوري، لكن الآن لا يمكن جهل أو نفي أن الجمهورية أصبحت جد عسكرية"[18].
أما انتخابات أفريل 1999 المسبقة التي انتهت بوصول أول شخصية مدنية إلى الحكم في الجزائر، وإن اختلفت عن سابقتها من حيث طبيعة وانتماء الوافد الجديد إلى السلطة، فإنها من ناحية أخرى شكلت استمرارية لفلسفة التدخل والوصاية. ففي رأي الباحث "عدي هواري" يعبر تعيين بوتفليقة كمرشح للجيش في انتخابات أفريل 1999 عن رغبة العسكرين في التغيير، فاختيار مدني يعبر عن إرادة في نفي الطابع العسكري للنظام[19].
إذن تدخل الجيش في الحياة السياسية خلال عقد التسعينات وإن اختلفت أشكاله وأنماطه، يبقى معطى أساسي وعامل مؤثر في عملية التحول الديمقراطي، من خلال انعكاساته ونتائجه المختلفة على الواقع السياسي ومسار التحول الديمقراطي.
ثالثا: انعكاسات تدخل المؤسسة العسكرية على مسار التحول الديمقراطي
منذ صدور دستور فبراير 1989 دخلت الجزائر في مرحلة سياسية جديدة ميزها السعي إلى الانتقال من نظام سياسي مبني على الأحادية والمشروعية الثورية إلى آخر قائم على التعددية الحزبية والشرعية الدستورية، فكيف كانت انعكاسات تدخل الجيش في المسار الانتخابي على مسار التحول الديمقراطي وعلى بنية النظام السياسي؟
1 غياب التداول على الحكم: ما من شك أن الوصاية التي مارستها المؤسسة العسكرية على الطبقة السياسية من خلال التدخل في المسار الانتخابي، بالتوقيف تارة وبتزكية ودعم المرشحين تارة أخرى كان لها تأثيرها المباشر على عملية التداول، التي تعد أهم مميزات الأنظمة الديمقراطية.
وعلينا هنا أن نفرق بين تداول الأحزاب والقوى السياسية المختلفة على الحكم، وتعاقب المسؤولين والرؤساء على دفة الحكم، فالأول يعني التناوب الحقيقي للبرامج والأفكار السياسية والطروحات المتباينة وفق إرادة الشعب، أما الثاني فيشير إلى ظاهرة استبدال المسؤولين في إطار استمرارية الوضع القائم، ولو بتغييرات شكلية في الأولويات والخطط والبرامج. والجزائر خلال العقد الماضي لم تشهد تداولا حقيقيا بقدر ما شهدت تعاقب المسؤولين والرؤساء، دونما المساس بجوهر السلطة الحاكمة التي ظلت واحدة طيلة عقد من الزمن ولم يطرأ عليها تغيير فعلي، وفي هذا الشأن يشير الباحث إسماعيل قيرة إلى أن الوضع في الجزائر تنطبق عليه إلى حد ما نظرية "الطوق العازل" أو ما هو شائع باسم "القوابس والقواطع الكهربائية"حيث أن الممسك بزمام السلطة السياسية (المؤسسة العسكرية)لا يظهر إلى العلن بصفة مباشرة .
إن السلطة الحقيقية تفوض أمر الممارسة المباشرة إلى واجهة مدنية هي أشبه بالطوق العازل الذي يحمي المركز، ويتشكل هذا الطوق من رئيس الدولة "كقاطع كهربائي" (Disjoncteur) ورئيس الحكومة والوزراء كقوابس(fusibles ) هذه القوابس يمكن التضحية بها دائما حفاظا على سلامة الجهاز الحاكم، وفي الحالات الخطيرة يمكن التضحية أيضا بالقاطع الكهربائي الرئيسي(رئيس الدولة) المهم هو بقاء مركز النظام سليما[20]. ولعل تعاقب أكثر من ستة رؤساء حكومة وخمسة رؤساء على سدة الحكم في الجزائر خلال عشرية من الزمن ليس، إلا دليل على عقلانية هذا الطرح.
أما رياض الصيداوي فقد قدم في دراسته جدولا للمقارنة بين القيادة العسكرية والقيادة السياسية في الجزائر خلال عقد التسعينات، توصل من خلالها إلى أنه من سنة 1992 إلى سنة 1999 شهدت الجزائر تعاقب 5 رؤساء دولة و6 رؤساء حكومات. بالمقابل لم تشهد مؤسسة الجيش أي تغييرات جوهرية عدا تغيير واحد في قيادة جيش البر وقيادة الدرك الوطني، و هو ما يبين ثبات العسكريين و تغير المدنيين.[21]
إن التداول الفعلي على السلطة لا تصنعه في اعتقادنا إلا انتخابات شفافة ونزيهة تعبر بصدق عن إرادة الناخبين بعيدا عن أشكال الاختيار والتزكية الفوقية. وهو ما لم يتحقق في الجزائر طيلة العقد الماضي، فكل الشخصيات التي تناوبت على القيادة السياسية للبلاد كانت من أبناء النظام الذي نشؤوا وارتقوا في سلم مسؤولياته، باستثناء شخصية بوضياف الذي و إن كان يعتبر رمزا تاريخيا، إلا أنه عاش حياة المعارضة من الاستقلال إلى غاية توليه منصب الرئاسة بتعيين من القيادة العسكرية.
2 ضعف المشاركة السياسية : إن نتيجة أخرى من نتائج العلاقة الشاذة التي جمعت المؤسسة العسكرية بالحقل السياسي طيلة العقد الماضي هي ضعف مستوى المشاركة السياسية، خاصة الدورية منها والمعبر عنها بواسطة الانتخابات حيث عرفت الانتخابات تراجعا واضحا في نسب المشاركة الشعبية.
فإذا اعتمدنا الأرقام الرسمية كمرجع، فإنه يمكننا أن نسجل بوضوح ذلك التراجع الهام في نسب المشاركة ابتدأً من الانتخابات التشريعية لجوان 2002 التي وصفها وزير الداخلية بالأكثر نزاهة في تاريخ الجزائر، حيث لم تتجاوز ال48%، بينما أعلن في أفريل 1999 موعد الانتخابات الرئاسية التي سبقتها عن نسبة مشاركة تقدر ب60%.[22] والواقع أنه حتى النسب الرسمية المعلنة خلال المواعيد التي سبقت كانت نسبا مبالغا فيها و شهدت تضخيما واضحا. فهي لا تعبر عن حجم المشاركة الحقيقية التي شهدت تراجعا كبيرا عقب وقف المسار الانتخابي.
ففي انتخابات ديمسبر 1991 التي شهدت تجنيدا واسعا لكل التشكيلات السياسية وإقبالا واسعا للمواطنين بلغت نسبة المشاركة فيها 58.55% ، فكيف بها في انتخابات نوفمبر 1995 التي قاطعتها الأحزاب الرئيسية و جرت في ظروف أمنية هي الأسوأ في تاريخ الجزائر المستقلة، تصل إلى حدود 75%.[23]
إن ظاهرة تراجع الاهتمام الشعبي بالعملية الانتخابية وإن كانت ظاهرة عالمية تعرفها حتى الدول الأكثر ديمقراطية وانفتاحا، فإن دوافعها في الجزائر ترجع بالدرجة الأولى إلى عدم إيمان الناخبين بإمكانية تحقيق تغيير حقيقي من خلالها، طال ما أن النتائج لم تكن دائما تعبيرا عن إرادتهم.
أما عن المشاركة السياسية الدائمة من خلال الأحزاب والهيئات والمؤسسات السياسية، فإن ضعفها تحصيل حاصل لضعف وتراجع المشاركة الدورية، فمؤسسات سياسية لا تعكس الإرادة الشعبية، لا يمكنها أن تكون قناة لمشاركة حقيقية، كذلك فإن أحزاب سياسية غير قادرة على الوصول إلى السلطة أو حتى المشاركة الفعلية فيها لا يمكن أن تكون فضاء لمشاركة سياسية دائمة، فعلى سبيل المثال لا الحصر إن ظاهرة اللجان الانتخابية لمساندة المرشحين التي تنتشر بسرعة في أرجاء الوطن، في ما يشبه عمليات "المناولة السياسية" عند كل موعد انتخابي ليست إلا تعبيرا على حالة العجز التي بلغتها التشكيلات السياسية، التي لم تنجح في التحول إلى أدوات فعالة للمشاركة سياسية.
هذا الفشل يُبرزه أيضا تعدد المرشحين المستقلين في الانتخابات الرئاسية (خاصة انتخابات أفريل 1999حيث بلغ عددهم6/7) كوجه أخر من أوجه المشاركة السياسية المناسباتية الناتجة على فشل القنوات والمسالك التقليدية في تجسيد المشاركة.
ضعف السلطة السياسية : إن معظم الأدبيات التي اهتمت بدراسة السلطة السياسية في الجزائر خلال التسعينيات تجمع على حقيقة وجود ازدواجية في السلطة السياسية؛ الأولى شكلية أو رسمية تسمى بالسلطة الظاهرة(Pouvoir apparent) والثانية فعلية وغير رسمية تسمى بالسلطة الخفية (Pouvoir occulte ) الأولى تمثلها المؤسسات السياسية المنتخبة أولها رئاسة الجمهورية، والثانية تجسدها المؤسسة العسكرية، حيث تفوض هذه الأخيرة للأولى تسيير شؤون الحكم لكن مع ضرورة العودة إليها بشأن القضايا المصيرية.[24]
وعليه فإن سلطة رئيس الدولة وفق هذا الطرح تبقى رهينة قبول و دعم المؤسسة العسكرية، وخياراته السياسية لن تكون كثيرة باعتبار أن الذين جاؤوا به، لهم الحق في إملاء شروطهم عليه، ولن يكون مطلق اليد في رسم سياسته، إلا إذا تخلص من سلطة الأطراف التي جاءت به إلى الحكم، فالقاعدة الميكيافلية تقول بأن"الملك لا يمكنه أن يحكم بصفة مطلقة طالما صناع الملك (Faiseurs de roi) موجودون"، ووفق هذا الطرح تكلمت العديد من المصادر عن وجود "اتفاق" بين الرئيس بوتفليقة والجيش، غداة وصوله إلى الحكم[25]، فيما تحدثت أخرى عن "خطوط حمراء" رسمتها القيادة العسكرية للرئيس الحالي[26]. وذهبت بعض المصادر الإعلامية إلى حد القول بأن الرئيس اشتكى "على هامش اجتماع قمة مجموعة الثمانية الكبار بمدينة "إيفيان" الفرنسية، من جنرالات الجيش، الذين قال بأنهم خلقوا له "عراقيل أمام أداء مهامه"[27].
وكل هذه المؤشرات توحي بأن السلطة السياسية الناتجة عن انتخابات خاضعة لمنطق التزكية و الاختيار المسبق لا يمكنها، إلا أن تكون رهينة في يد القوى أو الأطراف التي زكتها، وبالتالي فهي ضعيفة ومحدودة الصلاحيات وغير قادرة على القيام بتغييرات هامة أو نقلة حقيقية في الحياة الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية بصفة أخص.
وفي تقدير أحد وجوه المعارضة السياسية فإن أحد أهم الأسباب المنتجة للأزمات في الجزائر هو تحول القرار "نهائيا إلى من نسميهم أصحاب القرار، أي قادة الجيش هؤلاء يهيمنون على القرار، هم الذين ينظرون ويفكرون ويخططون للسياسات، ثم يختارون الواجهات لتكليفها بتنفيذ السياسات، وقد قبل الرئيس، مثلما فعل غيره القيام بهذه المهام أو الأدوار"[28].
4 استمرار المرحلة الانتقالية: إن تدخل المؤسسة العسكرية في المسار الانتخابي قد ساهم بشكل أساسي في إطالة عمر المرحلة الانتقالية، فعلى الرغم من أن الجزائر تجاوزت بكل تأكيد مرحلة الأحادية الحزبية وخطت خطوات هامة في سبيل توفير شروط الممارسة الديمقراطية، فإنها بالمقابل لم تحقق الانتقال الفعلي إلى الحياة الديمقراطية القائمة على التعددية واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية و التداول على السلطة.
والحقيقة أن عملية إقحام المؤسسة العسكرية في معترك العمل السياسي، مهما كان شكلها، عملية قد تجد تبريرها في حالة الأنظمة الشمولية أو تلك الأنظمة السائدة في مجتمعات مفتقدة للبنى والهياكل الاجتماعية والسياسية الضرورية لتسير شؤون الحكم، وإحداث تنمية الوطنية على الأصعدة المختلفة، بل إن هذا الإقحام قد يؤخذ في بعض الأحيان طابعا إنقاذيا، كما قد يبدو في صورة العمل الضروري للحفاظ على كيان الدولة والمجتمع.
أما في المجتمعات التي تمتلك حد أدنى من البنى والمؤسسات، وتسير في طريق استكمال بناء الهرم المؤسساتي وتجسيد عملية تحول حقيقية نحو الممارسة الديمقراطية، فإن هذا التدخل قد يؤخذ منحى آخر، يهدد بالقضاء على ما تحقق من مكتسبات ويزيد في صعوبة التحول الديمقراطي.
وفي الجزائر وإن كانت تجربة الجيش الجزائري إلى حد ما فريدة في شكلها وزمانها وظروفها، فإنه لا مفر من الاعتراف أيضا بأن استمرار الجيش أو قياداته في الاضطلاع بمسؤوليات سياسية، لاسيما من خلال التأثير في مسار اختيار القيادة السياسية، يعد سببا رئيسيا في زيادة أمد المرحلة الانتقالية ويزيد من عسر ميلاد التجربة الديمقراطية، التي استكملت إطارها القانوني والتأسيسي، لكن دون أن تتجسد على الميدان من خلال ممارسة حقيقية قائمة على الاحتكام التام للإرادة الشعبية.
وعلى ضوء التجربة السياسية التي عاشتها الجزائر طيلة العشرية الأخيرة من القرن العشرين، اجتهدت العديد من الدراسات في محاولة تصنيف المنتظم السياسي الجزائري بالعودة أساسا إلى حقيقة الأدوار التي تمارسها المؤسسة العسكرية من خلال علاقتها بالانتخابات وبالمؤسسات السياسية، وكذا من حيث موقعها في عملية صنع القرار.
فهل الجزائر حقا بلد ذو نظام عسكري؟
"بكل تأكيد لا" يجيب الباحث إلياس بوكراع، الذي يرى أنه من المبالغة وصف النظام السياسي الجزائري بالعسكري، و ينطلق في حكمه هذا من تحديد عناصر النظام السياسي العسكري التي يحصرها في خمسة؛ وجود الجيش على كل مستويات القيادة، التبعية المطلقة للسلطة السياسية للجيش، سيطرة الأيديولوجية العسكرية على الدولة، تدخل وسيطرة الجيش في تسيير شؤون الدولة ومراقبة الساحة السياسية، وأخيرا استقلالية الجيش نهائيا في تسيير شؤونه الداخلية. ثم ينتقل إلى إسقاط هذه العناصر على النظام الجزائري ليجد أن هناك شرطين فقط محققين هما استقلالية المؤسسة العسكرية والرقابة على الساحة السياسية، ومنه يرى بأنه من المبالغة وصف النظام الجزائري بالنظام العسكري[29].
بالمقابل يرى الباحث عدي هواري بأنه رغم أهمية ثقل المؤسسة العسكرية في النظام السياسي الجزائري، فهو ليس نظام عسكري ولا دكتاتورية عسكرية، كالتي سادت في أمريكا اللاتينية، إنه نظام سلطوي يستمد شرعيته من الجيش. و رغم اعتماد التعددية الحزبية، فإن حق تعيين الرئيس متروك للمؤسسة العسكرية وما الانتخابات إلا عملية لإضفاء الشرعية على خيارات الجيش، ويشبه "عدي" الجيش الجزائري بالحزب السياسي المهيمن، على شاكلة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي سابقا. ويضيف بأن العسكريين يفوضون الحكم للنخب المدنية لكن دون المساس بالقاعدة السياسية (غير مكتوبة) "الجيش هو مصدر السلطة"[30].
أما ويليام كوانت فيرى أن النظام السياسي الجزائري في بداية مرحلة انتقالية تبتعد به شيء فشيء عن ماضيه السلطوي، لكنه لا يخفي حقيقة وجود دور محوري للعسكر في السياسة الجزائرية، ومن الصعب تجاوز هذا الدور. ومع ذلك فإنه ينظر بتفاؤل لمستقبل الديمقراطية في الجزائر "لا يجب أن تفاجئ إذا رأينا الجزائر يوما ما تصل إلى أهدافها، بامتلاك حكومة مسؤولة أمام الشعب و تتمتع بتمثيلية حقيقية، وهذا قبل دول المنطقة الأخرى"[31].
في حين الباحث خميس والي حزام الذي قام بدراسة حول الشرعية في الأنظمة العربية (تطبيق على الحالة الجزائرية) يميل إلى تأييد الأطروحات التي تأكد بأن طبيعة النظام الجزائري جد معقدة وله آلياته الخاصة به، وحكمت عليه الأحداث التاريخية المتعاقبة بأن يكون نظاما عسكريا، فمنذ الاستقلال، وحتى قبله تكرست حقيقة أولوية الجيش، الذي سيكون الدور الحاكم والفاعل له وحده دون أي قوة سياسية أخرى.
وغير بعيد عن أطروحات "قويدر ناير" و"عبد القادر يفصح"، أو "ويليام زرتمان" وفكرة الدولة "العسكرية الموسعة"، أو نظام اللجنة العسكرية[32]، يميل "خميس والي" إلى تصنيف النظام السياسي الجزائري إلى غاية 2000 في خانة النظام العسكري-البيروقراطي لأن الجيش في النهاية هو المسيطر والحاكم النهائي، على الرغم من بعض الفترات التي مر بها النظام، التي سمح فيها لبعض القوى أن تشارك ولو جزئيا في السلطة،"وهذا ما يفسر في الوقت نفسه أن ظاهرة القوة التي يعكسها دور الجيش في الحياة السياسية والاجتماعية هي الصفة الملازمة لطبيعة النظام السياسي الجزائري".[33]
أما بالنسبة لنا فإن دور الجيش في اختيرا القيادات السياسية يعد مؤشرا هاما على درجة التأثير الذي تمارسه المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية، ويعكس حجم ثقل هذه المؤسسة في النظام السياسي، ومع ذلك فإنه في اعتقادنا لا يمكن توصيف الحالة الجزائرية على أنها حالة تسيطر فيها المؤسسة العسكرية وتهيمن على الحياة السياسية بصفة مطلقة إلى الحد الذي يصبح فيه النظام السياسي نظاما عسكريا، و من جهة أخرى فإن وجود دور سياسي للجيش مهما قل أو تعاظم، ينفي أيضا صفة الطابع الجمهوري عن الدولة ويحول دون قيام تجربة ديمقراطية حقيقية.
إن الوضع السياسي في الجزائر اليوم لا يمكن وصفه إلا بالانتقالي، الذي يفصل بين مرحلة سياسية قائمة على شرعية مستمدة من مؤسسة الجيش الممثلة للمشروعية التاريخية، إلى مرحلة جديدة قائمة على الشرعية الدستورية القائمة على السيادة الشعبية. وقد تكون هذه المرحلة الانتقالية طويلة نسبيا لكنها في نظرنا ليست وضعا مستقرا يمكن أن نصنف على أساسه النظام السياسي الجزائري بصورة قطعية في هذا النموذج أو ذاك، خصوصا في ظل التوجهات الجديدة لمؤسسة الجيش التي أضحت تواجه تحديات كبرى منذ سنة 2000 تمثلت أساسا في مسار الإحترافية والتحديث، سياسة التقارب والتعاون مع الحلف الأطلسي، وصعود جيل جديد من القيادات العسكرية أكثر ميلا إلى المهنية والإحتراف، كلها تحديات تساهم في رسم أطر جديدة لعلاقة المؤسسة العسكرية بالمجال السياسي ، زيادة على أن رغبة السلطة السياسية في تجاوز هذه المرحلة ووضع حد لتدخل هذه المؤسسة في الحياة السياسية يعد في الوقت الراهن المعطى الأساسي الذي سيحدد مستقبلا دور ومكانة الجيش في النظام السياسي.
الهوامش:
________________________________________
[1] مسلم باباعربي، تاريخ ومكان الازدياد: 08 مارس 1981 بتقرت ولاية ورقلة. الجمهورية الجزائرية
الجنسية: جزائرية. شهادة بكالوريا التعليم الثانوي شعبة الآداب و العلوم الإنسانية، بتقدير قريب من الجيد، دورة جوان 1998. شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة الجزائر، جوان 2002.
شهادة الماجستير في العلوم السياسية و العلاقات الدولية، تخصص تنظيمات سياسية وإدارية، بتقدير حسن جدا جامعة الجزائر في مارس 2005. يحضر حاليا شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية بجامعة الجزائر. أول تسجيل سنة 2005
أستاذ مساعد بقسم العلوم السياسية، كلية الحقوق والعلوم الاقتصادية، جامعة قاصدي مرباح- بورقلة الجمهورية الجزائرية.منذ نوفمبر 2005 إلى يومنا هذا.له العديد من البحوث و الدراسات والمشاركات.
________________________________________
[1]Jean François DAGUZAN, "Le Dernier Rempart ?", paris: Editions Publisud, 1998, p21.
[2] William B.QUANDT,"Société et pouvoir en Algérie", Alger: CASBAH Edition, 1999. p 203.
[3] مجدي حماد، "العسكريون العرب وقضية الوحدة"، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1987، ص130.
[4] Rachid Tlemçani,"Elections et élites en Algérie", Alger: CHIHAB EDITIONS, 2003,, p 34.
[5] Jean François DAGUZAN, op.cit, p19.
[6] رياض الصيداوي،"هل يتمرد الجيل الشاب على قيادة(ضباط الجيش الفرنسي)"،الزمان،
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] [7] مقابلة مع السيد مولود حمروش بتاريخ 10ماي 2004.
[8] رياض الصيداوي، مرجع سابق.
[9] نفس المرجع.
[10] عشية وقف المسار الانتخابي كان اللواء خالد نزار وزيرا للدفاع، اللواء عبد المالك قنايزية قائد أركان الجيش، اللواء محمد العماري قائد القوات البرية، اللواء بن عباس غزيل قائد الدرك الوطني، اللواء محمد تواتي قائد العمليات، وجميعهم ضباط سابقون في الجيش الفرنسي.
[11] قال علي هارون أحد مساهمين في عملية وقف المسار الانتخابي في حصة تلفزيونية لقناة CANAL+ Horizon أن وقف المسار الانتخابي في الجزائر شبيه بما حدث في فرنسا سنة 1958 "إنه عمل غير ديمقراطي لكنه لصالح الديمقراطية".
[12] "الذكرى الرابعة و الثلاثون للخدمة الوطنية"، مجلة الجيش،العدد 477،أفريل 2003.ص ص 6. 7.
[13] عبد الحميد مهري،"الجيش و السياسة و السلطة في الوطن العربي- تجربة الجزائر"، في أحمد ولد داده وآخرون،الجيش والسياسة والسلطة في الوطن العربي، مرجع سابق، ص63.
[14] نفس المرجع، ص75.
[15]
تصريح للعقيد يحي رحال مدير المحافظة السياسية للجيش، يوم 04 مارس 1989.
[16] نور الدين زمام ،"القوى السياسية والتنمية دراسة في سوسيولوجية العالم الثالث"، الجزائر:دار الكتاب العربي،2003، ص279.
[17]Jean François DAGUZAN, op.cit, p129.
[18] نور الدين بوكروح، "الجزائر بين السيء والأوسوأ: بحث في الأزمة الجزائرية"، الجزائر: دار القصبة، سنة 2000، ص88.
[19] Addi Lhouari, "L'armée, la nation et l'état en Algérie", débat ouvert sur l'armée Algérien ,
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] [20] إسماعيل قيرة وأخرون، "مستقبل الديمقراطية في الجزائر"، بيروت مركز دراسات الوحدة العربية، سنة 2002، ص98 .
[21] رياض الصيداوي،"صراعات النخب السياسية و العسكرية في الجزائر"، الحلقة ال16، رسالة الأطلس، العدد 309، ص10.
[22] Rachid Tlemçani, op.cit, p214 et274.
[23] رشيد بن يوب، "دليل الجزائر السياسي"، د.د.ن،سنة 2000، ص 52.
[24] نذكر من بين الذين يؤيدون هذا الطرح: عدي الهواري، عبد القادر يفصح ، رشيد تلمساني ، رياض الصيداوي، خميس والي حزام.
[25] صرح الخبير مصباح شفيق الضابط المتقاعد لأسبوعية أخبار الأسبوع عدد 127 من 06إلى 12 مارس 2004 ص 09 ، بأن هناك اتفاقا بين القيادة العسكرية و بوتفليقة تم على أساسه السماح له بتولي الحكم.
[26] Mireille Duteil "Les généraux fixent les règles du jeu", Le Point , N°1637. le 29/01/04 .p58.
[27] أنظر يومية الخبر، العدد 3813 الصادر يوم الثلاثاء 24جوان 2003/ 23 ربيع الثاني 1424.ص3.
[28] جاب الله عبد الله ، حوار لأسبوعية الخبر الأسبوعي،العدد 99 ،24/30 جانفي 2001، ص6.
[29] إلياس بوكراع،"العلاقات المدنية العسكرية في الجزائر"، مجلة الجيش، العدد 461، ديسمبر 2001. ص ص 32. 35.
[30] Addi Lhouari, "L'armée, la nation et l'état en Algérie", op.cit.
[31] William B.QUANDT,"SOCIETE ET POUVOIR EN ALGERIE", op.cit, p211.
[32] Jean François DAGUZAN, op.cit p 21.
[33] خميس حزام والي، "إشكالية الشرعية في الأنظمة السياسية العربية مع إشارة إلى التجربة الجزائرية"، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، سنة 2002،ص155.