تحليل الخطاب
" من اللسانيات إلى السيميائيات "
د . أحمد يوسف (الجزائر)
ـــــــــــــــــــــــــ
[ لسانيات الجملة ]:
إذا
كانت دلالة الخطاب تتضمن في المعجم اللاتيني الحوار وكذا معاني الخطابة
فإن اللسانيات المعاصرة حددت جغرافية الخطاب عند حدود الجملة ، حيث حظيت
بالاهتمام والدرس بوصفها وحدة تتوافر على شرط النظام . وهي غير قابلة
للتجزئة ، واذا أمعنا النظر في ماهية الخطاب على أنه ملفوظ يشكل وحدة
جوهرية خاضعة للتأمل . ففي حقيقة الأمر فإن الخطاب ما هو إلا تسلسل من
الجمل المتتابعة التي تصوغ ماهيته في النهاية .
وهنا
يظهر مأزق اللسانيات أو محدوديتها على الأصح . في معالجة إشكالية الخطاب
لأنها تحصره في نطاق الجملة التي نظر اليها اندريه مارتيني Andre Martinet
أنها أصغر مقطع ممثل بصورة كلية وتامة للخطاب . غير أن هذا لا يفضي الى
عجز الدراسات اللسانية في عدم قدرتها على معالجة قضايا أكبر من الجملة ،
وبالتالي عدمعجزها عن تحليل الخطاب . فهناك تباين في تحديد بنية الظاهرة
اللغوية . فعلماء اللغة يحددون الكلمة بأنها "وحدة في جملة تحدد معالم كل
منها بإمكانية الوقوف عندها" والجمله هي. "تتابع من الكلمات والمرقمات
التنغيمية(1) وهكذا تتداخل الكلمة والجملة في مفهوم متلاحم ، وعليه فإن
الجملة تتشكل من "مجموع الوحدات التي يصح أن يقف بينها (الكلمات )
بالاضافة الى درجة الصوت والتنغيم والمفصل ، ونحو ذلك مما يدخل في ايضاح
المعنى "(2).
إن
هذا المعطى التصوري للجملة لا يقلل من قيمة اقترابها من مفهوم الخطاب ،
فإذا كانت عناصر مثل الكلمة والصوت والنغم تشكل إطار الجملة ، وتعمل عل
بناء المعنى، فهذا لا يعوق دراسة الخطاب من وجهة نظر لسانية .
[ إسهامات اللغويين العرب ]
إن
المفهوم السابق للجملة يقترب كثيرا من أطروحات علماء اللغة العربية عندما
يعرفون ما. الكلام على أنه كل لفظ مستقل بنفسه مفيد لمعناه . وهو الذي
يسميه النحويون الجمل ، "نحو: زيد أخوك ، وقام محمد، وضرب سعيد، وفي الدار
أبوك ، وصه ومه ورويدا... فكل لفظ استقل بنفسه وجنيت منه ثمرة معناه فهو
كلام "(3). ويشير ابن هشام الى تحديد ماهية الجملة بمنطق اللساني المعاصر،
لأن الخطاب اللساني وضع أسسا اللساني المعا هو، لأن الخطاب اللساني وضع
أسسا ابستمولوجية لمنطلقاته المنهجية عندما أوضح الفروق القائمة بين اللغة
والكلام ، كما هو الشأن لدى دي سوسير في كتابه دروس في اللسانيات العامة
إن "الكلام هو القول المفيد بالقصد ، والمراد بالمفيد ما دل على معنى يحسن
السكوت عليه "(4)، وهو التصور ذاته الذي نلفيه عند هاريس .
إن
اللغويين العرب أولوا أهمية كبرى للكلام وربطوه بماهية الجملة وقسموا
عناصرها الى اسمية وفعلية من حيث موقع المسند والمسند اليه وما أنجز عنها
من علاقات حددها تمام حسان في العلاقات السياقية (القرائن المعنوية وحصرها
في الاسناد) والتخصيص والنسبة والتبعية والمخالفة(5).
إذا
كانت الجملة هي الكلام عند ابن جني، فهي تقابل القول عند سيبويه ، أما جار
الله الزمخشري فعرف الكلام بأنه "المركب من كلمتين أسندت احداهما الى
الأخرى... وذلك لا يتأتى إلا في اسمين كقولك زيد أخوك ، وبشر صاحبك أو في
فعل واسم نحو قولك ضرب زيد وانطلق بكر ويسمى جملة "(6)، إن تصور اللغويين
العرب للجملة وصلتها بالكلام لا يخلو من غموض وتناقض في بعض الأحايين .
هناك
تصور آخر للعلاقة بين الجملة والكلام نتيجة للفروق التي تكمن بينهما فيقول
الرضي "والفرق بين الكلام والجملة أن الجملة ما تضمن الاسناد الأصلي سواء
كانت مقصودة لذاتها أولا كالجملة التي هي خبر المبتدأ وسائر ما ذكر من
الجمل .. والكلام ما تضمن الاسناد الأصلي وكان مقصودا لذاته فكل كلام جملة
ولا ينعكس "(7).
[ بين لسانيات الجملة ولسانيات الكلام ]
هناك
إذن _طرخان يتمثلان في لسانيات الجملة ولسانيات الكلام ، فأين نضع مفهوم
الخطاب ضمن هذين الطرحين . فإذا قررنا بأن الخطاب مجموعة جمل تتوافر على
شرط النظام ، حتى يتسنى درسه وملاحظته فإننا نكون قد صدمنا المنطق الصارم
للسانيات التي تحدد موضوعها في الجملة ولا تتجاوزه . فإن الخطاب كما يرى
رولان بارت "يمتلك وحداته وقواعده و" نحوه ": فما
بعد الجملة ، ورغم أن الخطاب مكون فقط من جمل ، فمن الطبيعي أن يكون
الخطاب (هذا الما بعد) موضوعا للسانيات ثانية . وقد كان للسانيات الخطاب
هذه ، ولفترة جد طويلة ، اسم مجيد (الا وهو )
البلاغة
. لكن وكنتيجة للعبة تاريخية ، وبانتقال البلاغة الى صف الآداب الجميلة ،
وانفصال هذه الأخيرة عن دراسة اللغة فقد أصبح من اللازم حديثا العودة الى
إثارة المشكل من جديد"(8).
إن
اثارة بارت لها. المشكل كان منطلقه الاقتراب من فكرة البنية السردية
ولفتها وبالتحديد دراسة ما بعد الجملة ويبدو ظاهريا نقد بارت لجمود
اللسانيات عند حدود ضيقة محصورة في الجملة لكنه يرى بأنه لا مندوحة من
مقاربة البنية السر دية من منطلق لساني الى درجة إقراره بمعقولية "التسليم
(بوجود) علاقة تماثلية بين الجملة والخطاب ، و(ذلك ) اعتبارا الى أن نفس
التنظيم الشكلي ، هو ما ينظم ظاهريا كل الانساق السيميائية مهما اختلفت
موادها وأبعادها: هكذا سيصبح الخطاب "جملة كبيرة " (ولا تكون وحداتها
بالضرورة جملا) تماما مثلما ستكون الجملة في استعانتها ببعض المواصفات
"خطابا صغيرا"(...) فمن المشروع إذن التسليم بعلاقة ثانوية بين الجملة
والخطاب ومنسمي هذه العلاقة اعتبارا لطابعها الشكلي المحض ، علاقة تماثلية
"(9) وانطلاقا من هذه الفرضية التي وضعها بارت خلص الى أن السرد من وجهة
التحليل البنيوي يعد "طرفا في الجملة دون أن يكون في المستطاع أبدا
اختزاله الى "مجرد" مجموعة من الجمل . فالسرد جملة كبيرة . وهو يكون
بطريقة ما مثل كل جملة تقريرية Conaontative مشروع سرد صغير"(10)
لا
تزال حقول تحليل الخطاب تتراوح بين الذين يتشبثون بمنطق صرامة اللسانيات
وتضييق مجالاتها المعرفية وبين من يدعون الى نهج المرونة في الاقتراب من
فضاءات الخطاب وتوسيع مجالات اللسانيات لتشمل رحابة المعرفة وتشعباتها
ولاسيما أن فلسفة العصر الحديث هي اللغة بوصفها قناة لكل معرفة متوخاة
ــــــــــــــــ
1-ماريو باي : أسس علم اللغة _ ترجمة : أحمد مختار عمر _ ص 112
2-المرجع السابق : 113.
3- ابن جني : الخصائص : 1/18
4- ابن هشآم : مغني اللبيب - ص 490.
5- ينظر : تمام حسان اللغة العربية معناها ومبناها _ ص 189 ، 204
6- الزمخشري : المفصل _ ص 6.
7- الرضي : شرح الرضي على الكافية _ ص 52.
8-
رولان بارت : التحليل البنيوي للسرد _ ترجمة : مجموعة من المؤلفين _ مجلة
آفاق المغربية _ ع : 8, 9_ 1988_ ص 9.
9- المرجع السابق : 9.
0 ا - نفسه : 9